نحن وأزمة سلاسل الإمداد

التعثر في مجال التخطيط ليس وصمة تصم الفقير من الدول إنها وصمة تصيب حتى أغنياءها لأن التعامل مع “غير المتوقع” مثير للاضطراب بطبيعته أما المعالجة فإنها لا تميز بين فقير وغني.

عالم الوفرة الذي كان جزءا بديهيا من التوسع الاقتصادي الرأسمالي، يتلقى الآن صدمة ثانية، لعلها أشد وطأة من صدمة تعثر سلاسل الإمداد التي عاناها العالم بسبب تفشي وباء كورونا. ومَنْ لم يستدرك الأولى، مُعتبرا أنها “عابرة”، فإنه لن يستدرك الثانية. فلا تستغرب أن تكون العاقبة أوخم. فهذه الثانية تأتي مع عامل إضافي أكثر إيلاما، هو التضخم وارتفاع الأسعار على المستوى العالمي. ما يجعل الاستدراك المفقود أكثر ضررا، حتى لكأنه رصاصة في القدم، لاسيما عندما يتعلق الأمر بإمدادات القمح والاحتياجات الأساسية المماثلة.

التعثر، في مجال التخطيط، ليس على أي حال، وصمة تصم الفقير من الدول. إنها وصمة تصيب حتى أغنياءها أيضا، لأن التعامل مع “غير المتوقع” مثير للاضطراب بطبيعته. أما المعالجة، فإنها لا تميّز بين فقير وغني، لأن الآليات هي نفسها تقريبا، ولو تمايزت الإمكانيات.

يحسن البدء من البسيط، لكي تُفهم المشكلة.

ألمانيا التي استعبدت نفسها للغاز الروسي، وبريطانيا التي ترتفع بها الأسعار إلى مستويات جنونية، لم تعرفا وسائل “التدبير” التي كانت تعرفها أمي من قرن سبق

كان لي جدّ، أحسب أن كل أسرة عرفت مثله، يُميّز بين نوعين من الإنفاق في ما يتعلق بالإمدادات الأسرية. الأول بعيد المدى، والثاني يومي. كان هذا الجدّ لا يشتري الرز وما شاكله من أنواع الحبوب، إلا بما يكفي لعام كامل أو أكثر. وكذلك الحال بالنسبة إلى السلع “المعمرة” الأخرى، مثل الزيت والمجففات، بل وحتى اللحم أحيانا الذي يجري تقديده وتمليحه وإغراقه بالزيت أو بالشحم الحيواني. وحيث أن للكثير من السلع الغذائية مواسم تنخفض فيها الأسعار فترتفع في مواسم أخرى، فإن أعمال التجفيف والتخزين تُصبح شغلا شاغلا لكل نسوان الأسرة ورجالها في مواسم الزهد. ولو نقصت عنده “ذات اليد”، فإنه ما كان ليتردد في أن يستدين، لشراء صفقة ما بالجملة، ويعلم أن ثمنها “منها وفيها”. والتجار يتعاملون معه بمقدار لا حدود له من الثقة. يُعطيهم في منتصف أو حتى آخر العام ما كان يجب أن يعطيه في أوله، ويأخذ مؤونة عام آخر. والشراء بالجملة أوفر في النهاية من الشراء بالمفرق.

هذه “الاستراتيجية” تنطوي على كل العناصر الصحيحة في ما يتعلق بالإمداد “المحلي”. فهي تقوم على “تخطيط وإدارة الموارد والمشتريات، وإدارة الخدمات اللوجستية، والتنسيق والتعاون مع الموردين والوسطاء ومقدمي الخدمات”. وهذا هو بالضبط تعريف “إدارة سلاسل الإمداد”، لمن يريد أن يقرأها في كتب الجامعة.

وسواء كان الأمر يتعلق بإدارة احتياجات أسرة، أو إدارة احتياجات مصنع، أو إدارة احتياجات مجتمع، فإن الأمر هو نفسه دائما. حتى أنك لن تستطيع أن تتقبل كيف أن معملا لصناعة الأثاث، لا يملك ما يكفي لعام كامل من الخشب. أو كيف أن دولة لا تملك ما يكفي من مصادر الطاقة لكي تُبقي مكائن ذلك المعمل تدور لعام كامل أيضا.

تسمع من حين إلى آخر أن دولة ما تعرض مناقصة لشراء كمية من القمح. كان الموردون يتسابقون لتقديم العروض. هذا كان يحدث “أيام الوفرة”، التي لا مفاجآت فيها ولا طوارئ.

جانب من المسألة لا يتعلق بالموردين أنفسهم الذين صاروا يتعثرون الآن، لسبب أو لآخر، وإنما بقدرات التخزين لدى جهة الاستقبال. فتسمع مسؤولا إداريا يقول: لدينا احتياطات تكفي لستة أشهر. جدّي كان يتصرف على نحو أفضل. احتياطاته وبدائله وتنويعاته كانت تمتد لعام كامل أو أكثر. من ناحية، لأنه يتوفر على قدرات تخزين أوسع. ومن ناحية أخرى، لأنه لا يعتمد على مصدر توريد رئيسي واحد، ولو كان هو الأرخص. وما من تاجر إلا ويعرف أن له بديلا عند جدّي، فلا يتمازح معه بالعروض. بل إنه كان يفضل أن يدفع أكثر، لكي يحصل على كمية أكبر من أن يدفع أقل لكمية أصغر.

أسعار القمح ترتفع إلى أعلى مستوياتها

الجانب الآخر يتعلق بمفهوم الطوارئ نفسه. هذا المفهوم، لدى حكوماتنا الموقرة، يتعلق الآن بالأوبئة والحروب، ولكنه بالنسبة إلى جدّي كان يتعلق بمفهوم تجريدي تماما يسميه “عاديات الزمن”. ولأنه مفهوم مجرد مثل مفهوم “القدر” لا قياس ثابتا له، فإنه لم يتعلق بحوادث معينة. وإنما بالاستعداد المسبق لكل ما هو غير منظور أصلا. هكذا يُصبح “المجرد” عاملا من عوامل التخطيط. وهو عامل تفتقر إليه الكثير من الإدارات الحكومية وإدارات الشركات، لأنها لا تفهمه من الأساس.

التخطيط لما هو منتظر، شيء. والتخطيط لما هو غير منتظر، شيء آخر. العلاقة مع المنتظر كانت بالنسبة إلى جدّي تتعلق بحسابات آنية و”استراتيجية” تتوافق مع “دورة سلسلة الإمداد” أثناء دورانها. أما التخطيط لما هو غير منتظر، فكان يقصد ديمومة هذه الدورة، عندما ينقطع واحد من مصادرها، بسبب أو من دون سبب. أي عندما تفرض عاديات الزمن أقدارها على السلسلة.

وتلك السلسلة، بحسب النموذج المدرسي لها، تبدأ من إدارة المواد الأولية، التي تسبق التصنيع أو التحويل، ثم إدارة الإنتاج قبل أن يصل إلى المستهلك، ثم إدارة الخدمات. وهناك عنصران يتحكمان بهذه الدورة دائما: الكلفة، والجودة. وما لم يتحقق التوازن بين هذين العنصرين فإن السلسلة كلها تصبح فاسدة.

كان جدّي يرفض، على هذا الأساس، أن يشتري الأرخص، كما يُقلب فكره مرتين أو ثلاثا قبل أن يشتري الأغلى. وطالما أن المُنتَج سوف يُستهلك في النهاية، فما كان ليطرف له جفن في أن يشتري ثلاثة أضعاف احتياجاته.

مرت على الأسرة أزمات، بعضها كان شديدا للغاية. ولكن “الكفاية” ظلت قائمة بفضل “استراتيجيات التخطيط” تلك. النسوة في الدار، كنّ، بحكم الطبيعة، يتقصدن التوفير، أو ما كنّ يسمينه “التدبير”، حتى ولو كانت خزائنهن مترعة. في تلك الأيام كان يجري شطب “الإفراط” في الاستهلاك القابل للتأجيل. والمفاهيم تتبدل. فيصبح الاستهلاك مرتبطا بالحاجة، وليس بالوفرة.

المسألة إنما تتعلق بإدارة المبادئ، قبل أن تتعلق بإدارة الإمكانيات. إنها بكلام آخر، رؤية تعتمد إما على المنظور، وإما أن تضيف إليه “غير المنظور” أيضا.

الحاجة إلى “التجريد” ليست بالضرورة امتدادا لمفاهيم دينية، إنها مسألة إدارة أوسع أفقا للموارد والإمكانيات؛ إدارة من نمط آخر تماما، يحترم القَدر أو يخشاه على الأقل.

عالم الوفرة الذي كان جزءا بديهيا من التوسع الاقتصادي الرأسمالي، يتلقى الآن صدمة ثانية، لعلها أشد وطأة من صدمة تعثر سلاسل الإمداد التي عاناها العالم بسبب تفشي وباء كورونا

جدّي كان لا يعرف من “التجريد” غير وجهه الديني، وكان يكفيه تماما ويكفل أمن أسرته. ولكن ما بالك بمن لا يملك هذا ولا ذاك.

الآن تستطيع أن تعرف أن ما يسمى أزمة “الأمن الغذائي” لا يعود سببها إلى تفشي وباء كورونا، ولا إلى حرب تنشب في أوكرانيا. إنها تتعلق بمفهومك أنت لأمنك الغذائي، وبما إذا كنت مستعدا لجعل هذا المفهوم متوافقا، ليس مع ما يُوفره الموردون، في أيام الوفرة أو غيرها، ولكن ما إذا كان متوافقا مع ما توفره أنت من استعدادات مسبقة، تستقبل “عاديات الزمن”، بصرف النظر عما إذا أتت أم لم تأت. أو بعبارة أخرى: ما إذا كان التجريد الميتافيزيقي جزءا من المعادلة أم لا.

أزمة سلاسل الإمداد على هذا الأساس لم تنشأ في الخارج، لأن أصلها الأهم هو في الداخل.

ولكن لا تقلق. لست وحدك في هذه المعضلة، دول كبرى غبية تقع الآن في المطب نفسه.

ألمانيا التي استعبدت نفسها للغاز الروسي، وبريطانيا التي ترتفع بها الأسعار إلى مستويات جنونية، لم تعرفا وسائل “التدبير” التي كانت تعرفها أمي من قرن سبق.

علي الصراف – كاتب عراقي

World Opinions | Débats De Société, Questions, Opinions et Tribunes.. La Voix Des Sans-Voix | Alternative Média

تصفح ايضا

الشاب الذي هزم فرنسا… وطرد الفرنكفونية

ظلّ طيف من الأدباء والمثقفين العرب يتغنّى طوال حياته بانتمائه للثقافة الفرنكفونية. أعرف روائيًا مصريًا لم يكمل تعليمه الثانوي بقي يردّد حتى مماته أنه ابن الثقافة الفرنكفونية البار، رغم أنه لا يستطيع أن يتحدّث جملتين باللغة الفرنسية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Solve : *
10 × 7 =