تفاعلت عديد المنظمات والهيئـــات والجمعيـات والأحزاب مع المرسوم عدد55 لسنة 2022 فقد ندّدت بالنهج الإقصائي الذي يكرّسه القانون الانتخابي من خلال نسف آلية التناصف التي تضمن تمثيلية أكثر إنصافا للنساء، ونبّهت إلى أنّ حضور النساء في البرلمان القادم سيكون لامحالة، باهتا… ولكن لا مجيب . ولا معنى لهذا الإصرار على تجاهل إكراهات واقع اجتماعي يرى أنّ السياسية امتياز ذكوري، ولا يجد حرجا في ممارسة العنف الرمزي والنفسي وأحيانا المادي على المترشحات سوى وجود إرادة سياسية ترى أنّ المشهد السياسي يتطلّب إعادة هيكلة و«تطهيرا».
هذا النكوص يبرّره مناصرو مسار 25 جويلية بأنّ أداء النساء (عبير موسي وسامية عبوّ وأخريات…) كان جزءا من المشكلة إذ «فسدت السياسية» وعمّت الفوضى وكثر «العراك» وتمت «مسرحة» عديد المواقف وظهرت سلوكيات «غريبة» كالغناء والزغاريد و«تأنّثت» السياسية. وينمّ هذا التبرير في تقديرنا،عن التمثلات الاجتماعية-الدينية والرمزية المترسّخة في المتخيل الجمعي التي تقرن النساء بالشيطان والكيد والنجاسة و… وتنسب لهن العاطفية والانفعالية والفوضى و… في المقابل يُتّصف الرجال بالعقلانية والنظام والانضباط وقوّة التدبير…
ولعلّ استرجاع الخطابات التي برّرت «إخراج عائشة» من عالم السياسة بعد «واقعة الجمل» وإلزامها بالبيتوتة مفيد في هذا الصدد، لأنّه يقيم الدليل على أنّ البنى الذهنية لا تزال متصلبة وأنّ «دخول النساء» إلى المجال السياسي يبقى في الغالب،غير مرحّب به، فهنّ «الوافدات» ولا يستطعن الثبات ولا الارتقاء بالنشاط السياسي ويكفي هنا أن نتذكّر ما فعلته زوجات السلاطين ورؤساء الدول و… لنزداد يقينا بأنّهن غير مؤهلات لاقتسام السلطة مع الرجال.
قد يكون الحدّ من تمثيلية النساء مفهوما في هذا المشروع «الإصلاحي- التطهيري» الذي يزيح النساء «المفسدات في الأرض» و«النجسات» من المشهد، ويستبدلهن بفئة أخرى من النساء الحارسات للنظام الأبوي والمدافعات عن «مسار 25 جويلية» الذي سيحقق لهن بعض المواقع التي لا تكتسب من خلال الكفاءة والمعرفة والخبرة… بقدر ما تفيد من بنى القرابة والنظام العشائري الحامي والشعور بالمظلومية… وفي الواقع لا تعوزنا التجارب التاريخية السياسية التي أثبتت تواطؤ فئة من النساء مع النظام، وانقلابهن على المنجز النسائي والمكتسبات التي تحققت بفضل التضحيات الجسام. من قال إنّ الذكورية أيديولوجيا لا ينافح عنها إلاّ الرجال ؟
إنّ مسار الجمهورية الجديدة يتطلّب، حسب مهندسيه، إعادة الاعتبار إلى الرجال الممثلين «للذكورة التقليدية المهيمنة» وإعادة النظر في البنية العلائقية بين الجنسين ونظام الأسرة وغيرها من المسائل الاجتماعية التي لا تنفصل عن التصورات السياسية. كما أنّ هذا المسار يعيد ترتيب البيت السياسي الداخلي من خلال وضع كلّ «جنس» في مكانه «الطبيعي». وليست النساء المعوّل عليهن في عملية البناء إلاّ أدوات في خدمة المشروع ولا يمكن أن يكن بأي حال ذواتا تعبّر وتنتقد وتفعل وتهدد و… فهذا الأنموذج يشكّل مصدر خطر جسيم. إنّه يثير مخاوف قديمة لدى الرجال لها صلة بمختلف السلط.
فما المطلوب من التونسيات اليوم ؟: أن يحرقن وراءهن تاريخا من النضال من أجل انتزاع مواطنيتهن؟ أن يُعدن التصرّف في ذاكرتهن على نحو تُمحى فيه كلّ الصور التي تثبت فاعليتهن في محطّات مختلفة من التاريخ بدءا من حقبة مقاومة المستعمر وصولا إلى أحداث الرديف والقصبة1 و2 واعتصام الرحيل واحتجاجات أمّهات الشهداء/ات وجرحى/ات الثورة وعاملات المصانع وغيرها… ؟ أن يدخلن «بيت الطاعة» ليصبحن «متأدبات» مطيعات وخانعات ومتقبلات لكلّ القرارات والقوانين، ومطبّعات مع العنف الأبوي – السياسي، والطبقي والاقتصادي والقمع البوليسي…؟ أن يتخلّصن من المعارف القانونية والسياسية والاقتصادية والتكنولوجية والنسوية و… والتجارب والخبرات التي جعلتهن متمكّنات وصاحبات صوت مسموع وفعل على الميدان؟ أن يُعدن تشكيل ذواتهن فيتحوّلن إلى نساء في خدمة مسار سياسي جديد لا مواطنات متساويات مع الرجال؟ أن يتعمدن النسيان ويعتدن على التصميت؟
إنّ شوارع السودان وموريطانيا وكينيا وإيران تقيم الدليل على أنّ حركة التاريخ تسير إلى الأمام وأنّ صناعة الأمل مستمرة وهي الدعامة الكبرى لحركات التحرر.