ومع ذلك فهي تدور

ليس شرطا أن تتفق مع نوال السعداوي في كل طرحها لتحترمها، وليس مبررا أن تختلف معها في بعض أو كلّ طرحها لتعلن عليها انتفاضة الشامتين برحيلها وكأنما هي افتتحت به دربا لم يسر عليه قبلها من تأبى أن يقال في رحيله ما تقوله في رحيلها، لكنها المعركة الأزلية ضد كلّّ وأي تغيير في الخطاب الثقافي ومحاميله، وهي مناضلة عنيدة، وفدائية صعبة، فكرها حاضر حيّ وقويّ يرعبهم شبحه رغم رحيل جسدها..

ككلما ترجّل فارس من فرسان التنوير، ضجت برسائل وتسجيلات وتقارير الشماتة العلنية وسائل التواصل الاجتماعي لوفاة المفكرة والمناضلة الحقوقية الكبيرة نوال السعداوي، وهبّت عواصف المتألهين يوزعون نتائج الامتحان، ويعلنون بثقتهم -خرافيّة الجذور- رسوب الفقيدة، و استحقاقها السعير وبئس المصير ، ويفتحون نيران ألسنتهم الشتّامة مزندقين مكفّرين، يقدحون بمن عرف قدرها وأحزنه فقد الأمة سيل عطائها، ويتمنون له الحشر وإياها في جهنم مع “أم لهب حمالة الحطب” ومع ” أبي جهل وكفار قريش” وأظن كفار قريش الذين يشار إليهم في تلك الأدعية هم الذين لم تسعفهم أعمارهم ليدركوا قوّة دولة المسلمين في المدينة، فيعتنقوا الإسلام خوفا، وتؤلف قلوبهم بأموال الغنائم ليبقوا عليه إلى حينٍ طمعا ..

ثم وبعد سيل الشتائم والأمنيات الجهنمية، يبدأون التعريف بالفقيدة كعارف بها، ولم تتجاوز مصادر جلّهم آراء قرّاء العناوين، وآراء مصفَّدي العقول الذين يرعبهم التفكير خارج الصندوق، فإذا بمقالاتهم لا تجاوز في مضمونها تأكيد جهلهم بما يهرفون، إذ يحتجون بعلم قاصر على قول باحثة أكاديمية وعالمة ناضلت دهرا ربى على ثلثي القرن في ميدانها ..

أليس الختان الذي حاربته منذ الخمسينيات جريمة بحق الأنثى وامتهانا لإنسانيتها بما أثبته العلم وأيّده؟

أليست المثليّة التي يتّهمونها بالدعوة لها واقعا حاضرا رغم محاولات إنكاره، مرتبطا بمؤثرات واجبة البحث والدراسة لا الإنكار والمحاربة العشوائية القائمة على الرفض دونما فهم وإحاطة، وهل نادت السعداوي إلا بهذا البحث كما ينادي العلماء العقلاء؟

ألم يسبقها عمر بن الخطاب باستنكار تقبيل الحجر الأسود؟

ألم يكن رمي الجمرات طقسا سابقا للإسلام وفي ذات الموقع وهو المغمس؟ وكان المراد بالرّجم هم أبو رغال وصحبه؛ الخونة الذين ساروا هداة طريق مع أبرهة الأشرم في حرب الفيل؟

أليست تهمة ازدراء الأديان مسيّسة وسبوبة لهواة الشهرة كما وصفتها ؟ .. سيّما حين تكون تحصينا لمذهب واحد من دين واحد في مجتمع يضمّ اتباع مذاهب وأديان غيره، يسمعون ازدراء أديانهم ومذاهبهم يتردد عبر منابر دور العبادة ومحطات التلفزة وأجهزة التسجيل في الشوارع؟

أليس كلّ نظام سياسي يفسّر الدين كما شاء، يخدمه في ذلك علماء السلاطين ومفتوا الأنظمة؟

ألا تبقى الأفكار حيّة نابضة بعد رحيل أصحابها، تواصل مسيرة نضالهم تأسيسا وتدعيما لقضاياهم، ويبقون خارج دائرة الموت أحياء بها وإن رحلت أجسادهم؟

ليس شرطا أن تتفق مع نوال السعداوي في كل طرحها لتحترمها، وليس مبررا أن تختلف معها في بعض أو كلّ طرحها لتعلن عليها انتفاضة الشامتين برحيلها وكأنما هي افتتحت به دربا لم يسر عليه قبلها من تأبى أن يقال في رحيله ما تقوله في رحيلها، لكنها المعركة الأزلية ضد كلّّ وأي تغيير في الخطاب الثقافي ومحاميله، وهي مناضلة عنيدة، وفدائية صعبة، فكرها حاضر حيّ وقويّ يرعبهم شبحه رغم رحيل جسدها، فيطلقون نحوه سهامهم بعشوائية تصويب المذعور، وتوتّر قبضته، ويستفزّون ردودا تتحدى وهم الاستئثار بالحقّ المطلق، والاستئثار بالمعرفة المطلقة الذي يسكنهم، بوهم مماثل، هو موجّه الحركة لجحافل المتعصبين من كلّ الطوائف وكل الملل وكل العقائد والمعتقدات .. وما أكثر ما يهب به واحدهم في وجه الآخر صائحا : ” إحذر أن تمسّ ثوابتي” وهو يهذر ويهدر مسّا بثوابت ذلك الآخر كل حين ودون حتى ملاحظة كونه يفعل ..

إنه وعي الاختلاف الذي غاب عن الأذهان مفهومه، وضرورته لتحقيق التنوع الذي يغني الحياة ويرتقي بالحضارة ..

إنه قصور رؤية المتعصب عن تجاوز مدى أنفه، وأناه او نحنه المتورّمة حدّ الانفجار ..

وبوعي مفهوم الاختلاف او بجهله، تبقى نوال السعداوي رائدة الحراك النسوي العربي، ورائدة مشاركة المرأة في النضال الحقوقي الإنساني.

والمناضلة الراسخة القدم في معركة التوعية الشعبية بقضايا المرأة، وتظل حيّة بفكرها وتأثيرها الذي جاء أقرب ثماره في ذات يوم رحيلها، بتغليظ عقوبة ختان الإناث، وستتواصل الثمار، فالأفكار الحرّة لا تتوقف عن الانتشار.

ربيحة الرفاعي – كاتبة وباحثة

World Opinions | Débats De Société, Questions, Opinions et Tribunes.. La Voix Des Sans-Voix | Alternative Média

تصفح ايضا

الرد والرد المضاد.. كيف تلعب إيران وإسرائيل بأعصاب العالم؟

حبس العالم أنفاسه بعدما أصبح الشرق الأوسط قاب قوسين مما يشبه حربا عالمية ثالثة، قد دفع بالمنطقة لمستقبل غامض. غير أن هجوم الجمهورية الإسلامية ورد الدولة العبرية ظلا لحد الآن في حدود "المتوقع" وفق معلقين ألمان وأوروبيين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Solve : *
2 × 2 =