محمد محسن موسيقي أغانيه تقاوم النسيان والتجاهل

للمبدع مكانة خاصة في مجتمعه، فهو القيمة المضافة التي تجعل المجتمع في حراك نحو الأفضل، كما أن المبدعين يقودون شعوبهم باستمرار نحو آفاق متجددة روحيا وجماليا وفكريا. ونظرا إلى أهميتهم فكثيرا ما تحتفي أمم العالم بمبدعيها، لتخلدهم بإطلاق أسمائهم على محافل فنية أو ثقافية كبرى أو على مدن وأكاديميات وأحياء سكنية، أو مهرجانات وجوائز وأوسمة. ولكن يبدو أن للمبدع في العالم العربي مكانا آخر لا يحمل هذا الاهتمام، والأمثلة كثيرة.

يغيب عن ذهنية المجتمعات العربية غالبا على المستوى الرسمي وحتى الشعبي، الاحتفاء بالقامات الإبداعية أو العلمية المرموقة التي حققت تطورا هاما في مسيرة حياتها الحضارية. وغالبا ما يواجه المبدع العربي حالة من النسيان أو التناسي لمكانته الحقيقية التي من المفترض أن يشغلها في حياته أو مماته.
في فترة من حياته عاش الشاعر العراقي محمد مهدي الجواهري في جمهورية التشيك، وكان يرتاد مقهى قرب بيته على امتداد سنوات، وكان يؤم طاولته عدد من الصحافيين والأدباء العرب والأجانب، فصارت طاولة الشاعر الجواهري حدثا ثقافيا يوميا في ذلك المقهى. وبعد عودة الجواهري إلى دمشق واستقراره فيها ثم وفاته، قام أصحاب المقهى بعد مشاورات مع أدباء من التشيك، بتخصيص تلك الطاولة له، بحيث صنعوا له تمثالا شمعيا بالحجم الطبيعي وصارت الطاولة بعد رحيله مخصصة له وباسمه. لكن يبدو أن الذهنية العربية ما زالت بعيدة عن ذلك المفهوم، فالمبدع العربي مركون إلى متاهات النسيان في حياته قبل مماته والشواهد كثيرة ومؤلمة.

تجاهل وتكريم

في عامنا الحالي صادف مرور 250 عاما على ولادة الموسيقار الألماني الشهير بيتهوفن، المعروف في كل بقاع الأرض، فنظم الألمان بهذه المناسبة احتفالية كبرى امتدت على مدار عام كامل كما شاركتها في ذلك عشرات دور الأوبرا في العالم. وكان مخططا للمزيد من هذه الاحتفاليات لولا وجود وباء كورونا الذي عطل كثيرا منها.
المدهش أن منابر وفعاليات عربية شاركت في الاحتفالية في حين تتناسى أحداثا وشخصيات موسيقية عربية مؤثرة. من هؤلاء ملحن دمشقي هام قدم ألحانا لكبار الأسماء الفنية العربية جعلته في مصاف الكبار، وكثير من الناس يستمعون لألحانه لكنهم لا يعرفون أنها له. فمن ينسى الأغنية الشهيرة للمطربة الكبيرة سعاد محمد “مظلومة يا ناس” التي جعلتها في مقدمة المطربات العربية ثم أغنية فيروز “سيد الهوى قمري” أو أغنية محرم فؤاد الشهيرة “أبحث عن سمراء” أو الأغنية الشعبية المصرية “يا وابور الساعة 12” لمحمد رشدي.
ما ذكرناه من أعمال يقف وراءها الموسيقار الكبير محمد محسن (الناشف). الذي ولد بمدينة دمشق عام 1922. وتعلم فيها الموسيقى على يدي الموسيقي صبحي سعيد ثم ارتحل إلى القدس ليتعلم الموسيقى وهو من أوائل من تعلموا التدوين الموسيقي من الموسيقيين العرب. بدأ احترافه للعمل الموسيقي من إذاعة دمشق. مغنيا وملحنا. لكنه بعد تقديم 27 أغنية أيقن أنه لا يملك صوتا منافسا في الغناء مثل غيره، ومن الأفضل له التفرغ للتلحين، فكان ذلك.
كان محسن متأثرا بالشعر العربي الفصيح المبسط وقريبا من المدرسة السنباطية التي تتميز باهتمامها بالشعر الفصيح والعناية بالأسلوب التقليدي الموسيقي الذي يتعامل مع الأنماط الغربية بحذر ودراية، فقدم خلال مسيرته الفنية في كل من دمشق والقدس والقاهرة وبيروت العشرات من الأغاني التي بنى فيها طريقته الخاصة المعتمدة على الرصانة والجمال.

محمد محسن موسيقي خرج من دمشق وعاش في القدس وبيروت والقاهرة وعمل فيها مقدما ألحانا خلدها الزمن

في محاولة لتسليط الضوء على تجربة هذا المبدع، وتعريف الجمهور على جزء منها واستعادتها، أقامت مديرية المسارح والموسيقى في وزارة الثقافة بدمشق حفلا غنائيا على مسرح الحمراء مساء الـ20 من ديسمبر المنقضي. قدمته أوركسترا الموسيقى الشرقية بقيادة المايسترو نزيه أسعد. كان الحفل من إعداد المؤرخ الموسيقي أحمد بوبس. وقدم العديد من الألحان التي أنتجها محسن خلال مسيرة حياته الفنية، بأصوات غنائية شابة.
تنوعت الأغاني المقدمة في الحفل من الوطنية فالعاطفية إلى الطربية وكانت الحصة الأكبر للأغاني التي قدمها للسيدة فيروز، وكذلك أول أغنية قدمها لوردة الجزائرية “دق الحبيب دقة”. وسبق الحفل الغنائي تقديم لأحمد بوبس منظم الحفل وصديق الفنان الراحل، تحدث فيه عن مسيرة حياة الملحن محمد محسن وأهم المحطات في حياته المهنية.
يقول بوبس عن الحفل والمناسبة “أرادت المديرية العامة للمسارح والموسيقى أن تقوم بجهد في تعريف الناس بالموسيقيين السوريين الذين كانوا أصحاب قفزات كبرى في تاريخ الموسيقى السورية والعربية. لذلك أقامت هذا الحفل الذي يحتفي بقامة موسيقية سورية هامة كان لها تأثير كبير على المستوى السوري والعربي. فمحمد محسن موسيقي خرج من دمشق وعاش في القدس وبيروت والقاهرة وعمل في كل هذه العواصم وقدم ألحانا خلدها الزمن مع كبار المطربين العرب منهم صباح فخري وسعاد محمد وفيروز وصباح وفايزة أحمد ووردة الجزائرية وغيرهم”.
وأضاف “محسن فنان كبير قدم خلال مسيرة حياته الطويلة مئات الألحان التي ما زالت تعيش في وجدان الناس في كل العالم العربي، وساهم بتقديم أصوات عملاقة في تاريخ الغناء العربي أهمها وردة الجزائرية وفايزة أحمد”.
وبوبس كان صديقا مقربا من الفنان الراحل، وهو يروي عنه كيف تلقى عرض السيدة فيروز لتلحين أربع قصائد من الشعر العربي القديم، واستطاع بعد جهد إقناعه بقبول الفكرة والسفر إلى بيروت. وهو الأمر الذي لم يستطع أن يقوم به لاحقا عندما طلبته السيدة فيروز مجددا، فاعتذر بسبب حالته الصحية وأرسل اعتذاره عن الأمر دون إخبار أحد بذلك.

التوجه نحو التلحين

محمد محسن ملحن الكبار ولا يعرفه إلا القلة محمد محسن ملحن الكبار ولا يعرفه إلا القلة

رغم بدايته في فن الغناء، إلا أن الفنان محمد محسن قد استقر في تقديم الألحان كما فعل أستاذه سابقا رياض السنباطي. فاكتفى بما قدمه مغنيا، واتجه ليقدم الألحان إلى المطربين والمطربات.
عن ذلك يكتب الناقد صميم الشريف في كتابه “الموسيقى في سوريا” قائلا “أدرك محسن أن صوته الصغير رغم النواحي الجمالية التي يتميز بها، غير قادر على مجابهة المطربين الأقوياء الذين يتفوقون عليه بمساحاتهم الصوتية وأصواتهم القادرة مثل سري طمبورجي وصابر الصفح، فآثر أن يترك الساحة الغنائية إلى التلحين، لأنه لن يتمكن من أن يكون شيئا أمام أئمة الطرب في الوطن العربي، ولما كان يتمتع بموهبة موسيقية قوية، فإنه عمل على تثقيف نفسه فنيا قبل أن يحترف التلحين ويحيا في أجوائه بصورة نهائية”.
ويضيف الشريف “استغل محسن دعوة جاءته من إذاعة القدس لتسجيل بعض أغنياته، فاتصل خلال وجوده فيها بالموسيقار حنا الخل، ودرس على يديه علم التدوين الموسيقي، ثم قفل عائدا إلى دمشق، ليبدأ رحلته في سماء التلحين وليحقق طموحه الفني في إثراء الغناء العربي بألحانه في كل المنطقة العربية. وقد دفع بألحانه أصواتا مغمورة إلى الأضواء والشهرة، ووطد عن طريقها أقدام مطربين بلغوا مستوى القمة”.
ويذكر الناقد أن أول مطربة غنت لمحسن هي سعاد محمد، التي اعتادت في بداية حياتها الفنية ترديد أغنيات العظيمة أم كلثوم، فغنت من ألحانه رائعته الشهيرة “دمعة على خد الزمن” التي كتب كلماتها الشاعر الغنائي محمد علي فتوح، الذي تزوج منها في ما بعد، وبعد أن ذاع صيت سعاد محمد واشتهرت، عمدت إلى احتكار كل ألحانه وقد أدركت بحسها السليم أن موهبة محمد محسن هي مفتاح طريقها إلى الشهرة في عالم الطرب، ولم يبخل عليها فزودها بأغنية “ليه يا زمان الوفا” و”مظلومة يا ناس” لتكرسها نهائيا بين المطربات الأوائل في منطقة ديار الشام العربي.
بعد مغادرته لبنان عام 1976 استقر محمد محسن في القاهرة، وكان مسؤولا في الإذاعة المصرية، ومن هناك قدم العديد من الأعمال التي غناها له فنانون مصريون وعرب. فلحن القصيدة والأغنية الشعبية العربية.

كان لدى محسن هاجس اكتشاف المطربين الجدد وقدم ألحانه للكثير من الفنانين والفنانات في بداياتهم

ومن أعماله الشعبية الشهيرة زجلية صعيدية تراثية غناها محمد رشدي أحد رموز الأغنية الشعبية في مصر وهي “يا وابور الساعة 12” وحققت نجاحا كبيرا وغناها من بعده العديد من المطربين الكبار منهم عفاف راضي. ولفت الملحن محسن حينها الأنظار إليه باستطاعته تلحين أغنية شعبية مصرية مستوحاة من حيث الجذور من تراث مختلف عن تراثه. وحقق بموجب الأغنية حضورا هاما في سماء الفن المصري. كذلك قدم باللهجة المصرية العديد من الأعمال العاطفية والشعبية والوطنية.
يروي المؤرخ الموسيقي السوري أحمد بوبس، أن الموسيقار محمد محسن كان في ضيافة صديقه الموسيقار عاصي الرحباني في مكتبه عام 1970. وكان الأخير قد عرف موشحا لحنه محمد محسن وأحدث فيه تحولا هاما في شكل الموشح الغنائي العربي وقدم فيه تطويرا كبيرا. فوجه عاصي الرحباني سؤالا إلى محمد محسن عن أمنية فنية في نفسه يتمنى تحقيقها فرد الأخير قائلا “أن ألحن للجميع في لبنان. فما كان من عاصي إلا أن ناوله ورقة كتبت عليها قصيدة من توقيع الشاعر بشارة الخوري الأخطل الصغير وهي: سيد الهوى قمري، وطلب منه تلحينها لكي تغنيها السيدة فيروز”.
رحب الموسيقار بالفكرة وخلال ساعات لحنها وسجلت في زمن قياسي بعد أن قام بتوزيعها الأخوين الرحباني وشدت بها فيروز عام 1971 وكانت أغنية الموسم.
وبعد ما يقارب الخمسة وعشرين عاما على ذلك التعاون وتحديدا في عام 1996 أرادت الفنانة فيروز أن تقدم إنجازا فنيا يحمل جديدا إبداعيا، وكانت تتهيأ لإصدار مجموعة أغان لها مع ابنها الموسيقار زياد الرحباني هي “مش كاين هيك تكون”، ثم بدأت تفكر في محتوى المشروع.
واختارت فيروز أربع قصائد شعرية فصيحة من التراث العربي الصميم هي “ولي فؤاد” من شعر البحتري و”لو تعلمين بما أجن من الهوى” لجميل بثينة و”أحب من الأسماء ما شابه اسمها” لقيس بن الملوح و”جاءت معذبتي في غيهب الغسق” من شعر لسان الدين بن الخطيب، ثم اتصلت بالموسيقار محمد محسن بدمشق وطلبت منه الحضور لبيروت، وعرضت عليه فكرة العمل فقبل بها، ومكث في بيروت فترة حتى لحنها جميعها وتم إصدارها مع مجموعة “مش كاين هيك تكون”، فحققت رواجا كبيرا بين الناس.
بعد عدة سنوات رغبت السيدة فيروز في تكرار التجربة، فاختارت قصائد جديدة دفعتها إليه، لكنه اعتذر بسبب حالته النفسية الكئيبة التي كان عليها بعد أن فقد زوجته ورفيقة دربه وبلغ من العمر عتيا. فانصرف عن التلحين واعتذر.
من يطالع أسماء المطربات والمطربين الذين قدم لهم الألحان يعرف المكانة الكبيرة التي يحملها هذا الفنان الكبير ومبلغ التقدير الذي يكنه له كبار فناني العصر الذهبي للغناء.
العربي. فقد قدم ألحانا للمطربة سعاد محمد وفيروز ووردة الجزائرية وفايزة أحمد ونجاح سلام وسميرة توفيق ومها الجابري وشريفة فاضل وصباح وطروب وهيام يونس، ومن المطربين صباح فخري ووديع الصافي ونصري شمس الدين وفهد بلان ومحرم فؤاد ومحمد عبدالمطلب ومحمد عبده وطلال المداح وموفق بهجت والكثير من المطربين الآخرين وما زالت الإذاعات العربية تبث أغانيه بكثرة في كل الأوقات.

مكتشف الكبار

كان لدى محسن هاجس اكتشاف المطربين الجدد، ونتيجة لذلك قام في عام 1957 بدعوة مطربة شابة من الجزائر، كانت قادمة من باريس حديثا إلى بيروت اسمها وردة الجزائرية، وكانت تقدم أغنيات السيدة أم كلثوم واشتهرت بتقديمها أغنية “يا ظالمني”.
أيقن محسن أنه أمام كنز غنائي فتلقفها وقدم لها أغنية “دق الحبيب دقة”. وكانت البداية الفعلية لها، حيث بثت الأغنية من دمشق وصارت معروفة في كل العالم العربي، وقدم لها لاحقا اثنتي عشرة أغنية.
كذلك قدم المطربة فايزة أحمد التي أتت من حلب وكانت تؤدي أغنيات أم كلثوم فقدم لها أغنية وصارت من ألمع الأسماء العربية في مجال الغناء واستمرّ التعاون بينهما فترة طويلة.
وعندما لحن محمد محسن للفنانة سعاد محمد أغنية “مظلومة يا ناس” من زجل محمد علي فتوح لم يكن يعلم أنه يصنع أغنية ستكون إحدى أهم أغاني العصر. فعندما شدت بها سعاد محمد تجاوزت حدود لبنان ومصر والشام وصارت في كل أرجاء العالم العربي الأغنية الأكثر قربا للنساء اللواتي يرددنها في جلساتهن. وكأنها صوتهن الداخلي الممزوج بالألم والعذاب. وصارت الأغنية الأثيرة عند محسن وسعاد محمد التي قدمتها في كل حفلاتها اللاحقة.
يكتب الباحث والناقد الموسيقي سعدالله آغا القلعة عن هذه الأغنية “إن أغنية: مظلومة يا ناس، جاءت تتويجا لعدة أغنيات ذات طبيعة حزينة، وتوافقت في ذلك مع الطابع السائد للأغاني في تلك الفترة، والذي كانت السينما الواقعية قد بدأت بتحريضه، وكانت هذه الأغنية ترسم في سياق آخر ملامح حياة سعاد محمد الحقيقية التي حفلت بالصعاب والظلم والاتهامات الباطلة، وهو ما جعل هذه الأغنية أثيرة عندها، وتغنيها في كل مناسبة وكأنها لسان حالها”.

نضال قوشحة – كاتب سوري

World Opinions | Débats De Société, Questions, Opinions et Tribunes.. La Voix Des Sans-Voix | Alternative Média

تصفح ايضا

فيلم “أنورا” يحصل على السعفة الذهبية.. تعرف على جوائز الدورة الـ 77 لمهرجان كان السينمائي.. فيديو

حصل فيلم "أنورا" (Anora)، اامخرج الأمريكي شون بيكر، على السعفة الذهبية، وهي الجائزة الكبرى في المهرجان. واعتبرت رئيسة اللجنة تحكيم المنافسة الرسمية "هذا الفيلم رائع ومليء بالإنسانية (…) لقد حطم قلوبنا".

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Solve : *
9 + 25 =