لا أحد يكره مادة التاريخ بل طرق تدريسها منفرة

التاريخ رواية كبرى مفتوحة النهاية ومرهونة بطريقة العرض والمعالجة لذلك على المناهج الدراسية العربية أن تقدمه كحكاية لها زوايا متعددة وقراءات مختلفة.

منذ أن اكتشف البشر طبيعة تفوقهم على سائر المخلوقات، لم يفتروا يوما عن تدوين أساطيرهم، بدءا من تسجيل معاركهم في مواجهة الوحوش الضارية، وليس انتهاء بطباعة رواسِم كفوفهم فوق جدران الكهوف، تحية لمن سيجيء بعدهم، لكن الأمر تطوّر بعد عصور إلى الكتابة التأريخية التي نابت عنها لاحقا الكتابة الأدبية التاريخية، حيث إنسان هذا العصر مفتون بالتاريخ لكنه يأمل في أن يتناوله كحكاية مشوقة، لا تواريخ جافة كما يحدث في المناهج التعليمية العربية.
البشر أبناء للأساطير والحكايات، مجبولون على الحكي، موهوبون في ابتداع تنويعاته الفريدة، وبفضله تناقلوا معارفهم وراكموا خبراتهم فهيمنوا على العالم وصاغوا الحضارة، والتاريخ هو أكبر حكاياتهم على الإطلاق، إذ هو في جوهره حكاية جامعة أبطالها بعدد مَن عمّروا الأرض، حكاية تنمو باطّراد وتُبادِل أدوار أبطالها باستمرار، ولا تكشف مبكرا عن نهايتها الملغِزة.
تُحيل كلمة تاريخ إلى الزمن، فهي إمّا تعني تحديد الزمن باليوم والشهر والسنة طبقا لتقويم ما، وإمّا تُشير إلى جملة الأحداث والأحوال التي وقعت خلال فترة زمنية معينة. أما في اللغة الإنجليزية، فالكلمة لا تُشير إلى الزمن فحسب، ويتم التفرقة بين كلمة “history” التي تُشير إلى الأحداث والأحوال، وكلمة “date” المقصود بها تحديد الزمن طبقا للتقويم، الأولى من جذر كلمة يونانية قديمة تعني: السعي وراء المعرفة، إذن فالمعنى أشمل في الإنجليزية ولا يرتبط فقط برسم خارطة زمنية، لكن بمبحث كلّي شامل يأخذ في الاعتبار كافة ما يُضيف إلى معارف البشر عن صيرورة الزمن؛ إنها الحكاية الكبرى بجميع تفصيلاتها المكانية والزمانية؛ الرواية الأشمل لحكاية البشر، والتي لن تكتمل أبدا.
قديما طالبَت بعض قيادات الحركات النسوية في الغرب باستبدال كلمة “history”، بمفردة جديدة من ابتكارهن هي: “herstory”، بزعم أن الأولى تُعطي دورَ البطولة دائما للرجال، وتتخذ من النساء شخصيات ثانوية نادرا ما يكون لها تأثير على مجريات القصة، باعتبار أن الكلمة يُمكن تقسيمها لشقَّين: “his” و”story”، أي حكاية “هو”؛ أو بالأحرى: حكاية الرجل.
جعل هذه المسألة العديد من مناهضي تلك الحركات يسخرون ممّا ذهبت إليه النساء، ويُرجِعون الكلمة إلى جذرها اللغوي، فيما علَّق آخرون بأن مجرد فهْم النساء لهذا المصطلح على هذا النحو، لهُو دليلٌ على كون الحكاية تُسطَر من وجهة نظر الرجال فحسب، وأن علينا التعلُّمَ من هذه الإشارة. لكنهم مهما اختلفوا حول الشق الأول من الكلمة، الخاص بوجهة النظر التي تُروى منها حكاية البشر، فدائما ما يتفقون على الشق الثاني الذي يُشير إلى كون الحكاية هي جوهر التاريخ.

مناهج منفّرة

التاريخ أرض حكايات أفسدها المؤرخون

يكثر بين طلبة المدارس في البلاد العربية مَن ينفرون من مادة التاريخ؛ إذ يُشفقون من اضطرارهم لحفظ التواريخ والأسماء واستذكار المواقع الحربية والأحداث التاريخية وحفظ أسبابها ونتائجها، لكي يستعيدوها بحذافيرها أثناء الامتحان.
الغريب أن نجد من يُقبلون لاحقا على قراءة كتب التاريخ والروايات التاريخية، وكذلك مشاهدة الأفلام والمسلسلات التي تدور أحداثها خلال حقَب تاريخية كانوا يتحاشون التعرف عليها عبر المناهج الدراسية.
الأمر إذن ليس مرتبطا بجاذبية المادة ومحتواها في نظر الطلاب، بقدر ما هو مرهون بطريقة عرضها ومعالجتها، ثم بطبيعة الأسئلة المتضمَّنة في اختبارات مادة التاريخ، كوسيلة لتقييم ما حصل عليه الطلبة.
على النقيض من ذلك، تُقدِّم مناهج التعليم الأميركية والبريطانية مادة التاريخ باعتبارها حكاية للعالم قديمه وحديثه؛ حكاية مصوَّرة وجاذبة، لا يُطلَب من الطالب حفظ تواريخها وتفاصيلها، بقدر ما يُنتظَر منه استيعاب تطوُّراتها والتأمل في ثراء أفكارها وتأثير شخصياتها، وكأنها روايةٌ طويلة ذات حبكة معقَّدة وخطوط متشابكة.
تقدم الحضارات باعتبارها مُنجزات قام بها البشر في أماكن وعصور شتى، والديانات والحركات الإصلاحية كثورات فكرية وأخلاقية قادها أُناس مؤثِّرون، كما تُسرَد الحقب التاريخية كفصولٍ لحكاية واحدة هي قصة البشر في العموم، بدءا من سكان الكهوف وحتى رحّالة الفضاء.
وحتى تاريخ الحروب الحديثة تتم معالجته كصراع بين الأفكار والمصالح والأيديولوجيات، ويُطلَب من الدارس عقد المقارنات ووضع السيناريوهات البديلة، التي من شأنها أن تجرف مجرى التاريخ في مسارات مغايرة.
بأيّ قدر ساهم الاصطلاح اللغوي هنا وهناك، في رؤية كل فصيل لمادة التاريخ؟ هل يستدعي الأمر منا إعادةَ نظر في طريقة العرض والمعالجة؟
تَشهد الفترة الحالية إقبالا مدهشا من القراء على اقتناء كتب التاريخ، وبعد أن كانت الروايات والكتب الكلاسيكية والتراثية والأدب الساخر تحتل وحدها رؤوس قوائم الكتب الأعلى مبيعا، صارت كتب التاريخ تزاحمها ثم تتفوق عليها وتحتل مكانها في الفترة الأخيرة.
وبدأ العديد من دور النشر في التقليل من حجم إصداراتهم الروائية والقصصية لصالح كتب التاريخ وغيرها من الكتب الفكرية، استجابة لهذا الإقبال من زوار المكتبات ومعارض الكتاب، إضافة إلى الكتب التنموية وتلك الخاصة بالعلاقات، التي تتمسك دائما بحصتها من سوق الكتب.
الشاهد هنا أن القارئ العربي يُبدي شغفا واضحا بالتعرف على التاريخ، عن طريق كتبٍ ذات محتوى جاذب لا يفتقر لمتعة الحكي، ولا يفرض على قارئه الحفظ والاسترجاع، لذلك نجد كتبا على شاكلة “تاريخ شكل تاني” و”تاريخ في الظل” للكاتب والباحث المصري وليد فكري، تتصدر قوائم المبيعات عدة مرات.
كذلك تسيّدت كتب المستشرق وعالم الآثار البريطاني ستانلي لين بول “تاريخ مصر في العصور الوسطى” و”سيرة القاهرة” و”تاريخ العرب المسلمين في إسبانيا”، التي صدرت منها نُسخٌ حديثة منقحة وبيعَت منها عدة طبعات.

زوايا عديدة لصورة واحدة

تاريخ عريق لا بد من تغيير نظرتنا إليه

ليست كتب التاريخ وحدها التي تقص حكاية الإنسان، فثمة كتب من مشارب شتى تُكمل الصورة وتسد الفراغات، منها على سبيل المثال ما يعرض لحوادث وشخصيات هامة خلال فترة زمنية معينة، ما يُساهم في رسم أبعاد هذه الفترة والكشف عن طبيعة العلاقات والصراعات التي كانت تحكمها، من أمثلة هذه النوعية كتاب “أيام لها تاريخ” للكاتب الراحل أحمد بهاء الدين، وفيه قدم الكاتب عددا من الشخصيات المؤثرة في تاريخ مصر الحديث، على غرار عبدالله النديم (أدبيات الثورة)، والسياسي والحقوقي المصري محمد فريد، والشيخ علي عبدالرازق، كما رسم بعض المشاهد الحية التي جرت في أوائل القرن العشرين، منها أحداث قرية زفتى بالتزامن مع ثورة 1919 والتي نالت بسببها لقب “إمبراطورية زفتى”.
ثمة مثال آخر هو كتاب “سيرة الضمير المصري” للكاتب إيهاب الملاح، الذي يُقدِّم نماذج أخرى للحوادث والشخصيات البارزة، على غرار شيخ العرب همام صاحب أول محاولة استقلال، ورفاعة الطهطاوي مؤسّس مدرسة الألسن (الترجمة)، والخديوي إسماعيل راعي موجة التحديث الثانية في تاريخ مصر الحديث.
كما هناك نوع آخر يقدِّم التاريخ من وجهة نظر العوام، لا من زاوية السُّلطة ومنظور الشخصيات البارزة ذات التأثير، ومن أبرز أمثلته كتاب “كل رجال الباشا” للدكتور وأستاذ التاريخ خالد فهمي، الذي يُعيد تقديم فترة محمد علي باشا من وجهة نظر المحكومين، أغلبهم من الفلاحين المتأثرين بمُجريات الحُكم والتحولات الجذرية التي أخذَت تطرأ على تنظيم الدولة المصرية وطريقة إدارتها، والجنود الذين عاينوا تشكّل الجيش المصري الحديث، من واقع خطاباتهم والوثائق التي تكشف جوانب من قصتهم.
ومن أمثلته أيضا كتاب “هوامش التاريخ” للكاتب والصحافي المصري مصطفى عبيد، وفيه يسرد الكاتب تاريخ القاع، المجرمين والقوّادين، المسطولين والمتفكّهين، ويُسلِّط الضوء على الهوامش المظلمة التي عادة ما تبقى طيَّ التجاهل والكتمان.
وكأي قصة تُروى، لا بد أن يلعب المكانُ دورا رئيسيا في تشكيل الإطار والتمهيد لمجرى الأحداث، ولذلك نجد مَن يقرأ التاريخ من وجهة نظر المكان وعناصره المميزة خلال حقبة زمنية ما، مثلما فعل جمال الغيطاني في كتابه “ملامح القاهرة في ألف سنة”، حيث سطَر تاريخ القاهرة منطلقا من مكوناتها المكانية والمعمارية، كالمقاهي والأسواق العربية، والمساجد والمآذن والبيوت القديمة ومجالس السلاطين، كما عرَّج أيضا على المتاحف والأهرامات والشواهد الخالدة.
كذلك فعل الروائي والقاص المصري حمدي أبوجليّل في كتابه “القاهرة شوارع وحكايات”، إذ تستسحيل الشوارع وعناصرها أبطالا لحكاية التاريخ، هم مَن يتبدّلون ويتطوَّرون مع حركة الزمن، يزدهرون، يمرضون، يتعرَّضون للسطو والتجريف والتخريب، من الاستعمار في بعض الأحيان.
ويعرض علينا قصرا ذا معمار فريد في أحد شوارع القاهرة الخديوية، شهِد ما لم يشهدْه بشرٌ من التقلّبات والتحوّلات، إذ وُلِد القصر في أواخر القرن التاسع عشر، وبلغ أوجَه في بدايات القرن العشرين، قبل أن يتحوَّل خلال عشرينات القرن إلى محل تجاري على يد تاجر يهودي، ثم يجري تأميمه في الخمسينات وتحويله إلى مبنى تابع لإحدى الجهات الحكومية، حتى ينهار ويصير وكرا لأولاد الشوارع والمجرمين.

مكان في القصة

القارئ العربي يُبدي شغفا واضحا بالتعرف على التاريخ

يرى كبار الناشرين أن الفترة القادمة قد تشهد المزيد من الإقبال على الرواية التاريخية، تلك التي تجمع بين الحُسنيَين: متعة الحكي، وشغف المعرفة، ولها خصوصية بين صنوف الرواية، إذ تعكس بطريقتها الخاصة سعيَ الإنسان إلى إعادة بناء الماضي ومحاولة فهمه، ما يُحيلنا ثانية إلى الجذر اليوناني لكلمة “تاريخ” في اللغة الإنجليزية: السعي وراء المعرفة.
إن رواية مثل “تغريبة بني حتحوت” للكاتب والسيناريست المصري مجيد طوبيا، خير مثال على إعادة بناء حقبةٍ تاريخية من وجهة نظر العامة، إذ تضمُّ هذه السردية كمّا هائلا من الوقائع التاريخية المعروفة إبان الحملة الفرنسية على مصر، مضفورة مع حكايات خيالية لأبطال عايَشوا تلك الأحداث، فتأثّروا بها وشاركوا في صياغتها.
وهو ما ظهر في رواية “قرية ظالمة” للطبيب والكاتب المصري محمد كامل حسين، التي تسرد الوقائع الأخيرة في حياة السيد المسيح، من وجهات نظر متباينة، فتُقدِّم بذلك قراءة نفسية وسياسية واجتماعية لهذه اللحظة الفارقة من تاريخ البشر.

الغريب أن من يقبلون على قراءة كتب التاريخ والروايات التاريخية، كانوا يتحاشون مادة التاريخ في المناهج الدراسية

وهذا مسلك غير بعيد عمّا سلكه الروائي لبناني الأصل أمين معلوف في رواية “سمرقند”، وفيها يُعيد صياغة الحياة في بلاد فارس خلال القرن الحادي عشر، عبر قصة الشاعر الفيلسوف عمر الخيام صاحب الرباعيات الشهيرة، وما تشتبك معها من شخصيات تركَت أثرا تاريخيّا لا يمكن إغفاله، كالوزير نظام الملك وحسن الصبّاح زعيم الحشاشين.
وبالنظر إلى المنجَز الكبير الذي قدَّمه الكتّاب العرب في مضمار الرواية التاريخية، كما في تقديم التاريخ من وجهات نظر متفاوتة، يبدو منطقيّا أن نسأل صنّاع المناهج الدراسية: لماذا لا ندمج بعض النماذج المناسبة من هذا المنجَز الكبير في مادة التاريخ، ولو بالإشارة إلى نصوص إضافية يمكن الاطلاع عليها، أو بإضافة بعض الملاحق في نهاية الكتب الدراسية؟ ألا يجدر بنا أن نفكِّر جديّا في تقديم التاريخ كحكاية لها زوايا متعددة، وقراءات مختلفة، وحكايات لا نهائية، أم نظل متقوقعين في خانة الرؤية الأحادية والحفظ والاستذكار؟ إنه السؤال الفارق حول موقفنا من التاريخ، والمحدّد لرؤيتنا إلى المستقبل.

أحمد القرملاوي – كاتب وأديب مصري

World Opinions | Débats De Société, Questions, Opinions et Tribunes.. La Voix Des Sans-Voix | Alternative Média

تصفح ايضا

فيلم “أنورا” يحصل على السعفة الذهبية.. تعرف على جوائز الدورة الـ 77 لمهرجان كان السينمائي.. فيديو

حصل فيلم "أنورا" (Anora)، اامخرج الأمريكي شون بيكر، على السعفة الذهبية، وهي الجائزة الكبرى في المهرجان. واعتبرت رئيسة اللجنة تحكيم المنافسة الرسمية "هذا الفيلم رائع ومليء بالإنسانية (…) لقد حطم قلوبنا".

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Solve : *
14 ⁄ 1 =