رواية ” حطب سراييفو” .. للجزائري سعيد خطيبي

الأدب عموماً هو الشاهد الأبهى والأقرب على ما خلّفته الحروب من فظائع، بل يكاد يكون الوسيط الروحي بين من يعانون من الاغتراب والانفصال عن واقعهم المأساوي من جراء الندوب النفسية والجسدية التي خلّفتها تلك الأهوال.

تدور أحداث الرواية حول حروب ابتكرت وصنّعت لغتها ومفرداتها الدّالة عليها وعلى حجم الرعب الذي أوجده “نواطير الأرواح” لبشر لم يعد لديهم أحلام سوى حلم النجاة من الحفر الجماعية التي تنتظرهم، بينما يزدحم قاموسهم بمفردات دالّة وكفيلة بزجنا في العمل بقوة. كالنقاط الحدودية، السماسرة، تأشيرات السفر المزوّرة، المساومات، الحالمون بحياة أفضل، المغتصبات وشهادات الناجين من المجازر.
لا شك أن كلّ واقع جديد يستدعي أنماطاً أدبية مستحدثة، أو لنقل غير نمطية للتعبير عنها باعتماد تقنيات حديثة في السرد بعيداً عن الأساليب التقليدية التي كُرّست وانتُهِجت ردْحاً من الزمن، وأزمنتنا الحالية صارت تتطلّب ما هو أكثر دراية وعمقاً في المعالجة، ضاربةً عرض الحائط بخاصّية التسلسل الزمني المنفّرة والمملّة لقارئ هو ذاته تمرّد على الحبكة الأثيرة لحكايات نمطية لم تعد تقنعه، فالانهيارات الكبيرة التي طالت أزمنة سادت ومادت هنا وهناك، قد خلقَت كائنات بهويات متأزّمة، وغير مشغولة سوى بتصدعاتها الخاصّة وفشلها في ترميم ما انهار منها. بطل الرواية سليم دبكي الجزائري الهارب من حرب لا اسم لها، ربما يُطلَق عليها اسم الحيّة أو الجمرة، تلك “المدينة التي تطبخ حساءها من دم المذبوحين، وتتعطّر برائحة الموتى.”
الآن وقد تسنّى له الانتقال إلى أرض أخرى ذاقت من ويلات الحروب الكثير، ليجد نفسه عالقاً بين حربين، غير أنه أقحمنا وبذكاء في حاضر مضطرب من صنع ذاكرة متألمة لشخصيات عانت أيضاً من فظاعات الحروب، ولكنه تكفّل بحذاقته في إنعاش أرواح شخوصه المتمردة بتهيئة إمكانيات الرحيل نحو أماكن أكثر أماناً.
الأمر هنا ينطبق على إيفانا الشخصية المحورية الأخرى القادمة من سراييفو؛ المدينة التي تشبّهها إيفانا بامرأة جميلة تملأ وجهها الكدمات.
“سراييفو مدينة تحت القذائف وتدفن موتاها في حفر جماعية” وحيث ” كل شئ مشفّر، لا أحد يثق بأحد”.
اعتمد الكاتب تقنية تعدد الأصوات والسرد في محاور متوازية، والمقارنة ما بين الأحداث المتشابهة والمتزامنة بعرضه لكل ما هو راسخ أو طارئ بتوليفة ذكية وسلسة.
تداخل الأزمنة يسّر حدوث الكثير من المصادفات غير المتوقّعة التي لم تنل من تركيز القارئ، ولم تقلّل من افتتانه بالعمل، فمهارة سعيد خطيبي كانت لافتة في جعل ما هو مستحيل ممكن بتسليطه الضوء على سجالات شخوص الرواية ومعاركها الخاصة والعامة، وهكذا كل ما هو غير مقنع ونافر بدا لاحقاً للقارئ منطقياً وآسراً.

لا شعورياً يتتبع القارئ سلسلة المقارنات التي يذكرها الكاتب بإسهاب، فوالد سليم امّحت ذاكرته بسبب الزهايمر الذي أصابه، وكذلك شقيقه أحمد الذي هاجر إلى ليوبليانا قد امّحت ذاكرته ولكن بمشيئته طبعاً، ليقطع كل علاقته مع ماضٍ لم يعد يعنيه.
تذكر إيفانا أنها ولدت بحقد جنيني تجاه والدها الذي كان يفرط في قسوته مع والدتها. أيضاً، سليم يروي ذكرياته مع والده وتعنيفه المستمر له هو وشقيقه فاروق.
كما أنه لم يغفل عن الإشارة إلى الفروق الكثيرة ما بين الجزائر وليوبليانا بوصفه للمكتبات العامة والمباني والمدارس والمقابر”.
“المقبرة تحفة من صنائع المعماري يوج بلاشنيك تحوطها حديقة وتتقاطع فيها ممرات وأرصفة تختلف تماماً عن مقابر الجزائر العابسة والغارقة في الوحشة”.
ومقارنة إيفانا لذاتها مع نهر ميلياتسكانا: “أظنني رضعت من مائه وارتويت، وليس من نهد أمي، لم يتعب هذا النهر من خياناتنا ولم ينضب”.

حتى أن إيفانا يخامرها الشعور أحياناً بأنها هي النهر:

“هذا النهر هو أنا: لا سراييفو من دون ميلياتسكانا ولا إيفانا من دون سراييفو”.
وفي سرد آخر تتحسّر على الحالة التي أمسى عليها النهر، “منسوب الماء انخفض ولونه تلوث، لا أظنني أملك جرأة الشرب منه كما كنت أفعل في سنوات الحرب”.
كثيرة هي المقاطع التي تعمّد الكاتب شحنها بنفحات جمالية ليؤكّد على الحضور الإنساني الطاغي في العمل وكاحتجاج على العنف الذي ما فتئ يشوه العالم.
في السجن تغلبت إيفانا على آلامها بتذكرها لأغنية “ليديا” لكمال مونتينو بقولها: “كمال مونتينو هو نبي المدينة ونحن العاصون، لولا سفينة الحب التي بناها من كلمات وإيقاعات لجرفنا الطوفان أو صرنا مسوخاً”.
ثم إن التقاطعات الوفيرة بين الشخصيتين المحوريتين منحتا الرواية ذلك الغنى والصدق. الوالدن المعنّفان والوالدتان الصامتتان المضطهدتان، والنهايات البشعة لوالديهما معاً، يقول سليم الذي لم يكتشف حقيقة والده إلا بعد موته: “أبي مات كما يموت جربوع وأمي استحالت سماداً يخصّب التراب من دون أن أرى يوماً وجهها”.
لا شك أن الصدف في الأدب ممكنة بل ولها دور في تطور العمل وإثرائه بمقارنات زادت من عمقه وخلقت عند القارئ حالة من الفضول الحقيقي لتقصّي تلك التناقضات رفقة الكاتب.
إن ما اكتشفته إيفانا لاحقاً عن والدها الذي كان متهماً بالخيانة لتعامله مع التشتنيك ونقل الأخبار إليهم يكاد يماثل صدمة سليم لمّا اكتشف أن والده الحقيقي هو عمه أحمد وليس والده الحاج الذي ربّاه.
ثم إن ذكريات إيفانا وسليم العاطفية مريرة ومتشابهة إلى حدٍّ كبير لدرجة أن أنينهم يكاد يُسمع من بين السطور..
تقول إيفانا: ” تصورت أن الحرب التي مزّقت وجه سراييفو ستجرفني معها وتحولني إلى خرقة بالية”.
فخيبة أمل وصدمة إيفانا بحبيبها غوران لمّا اكتشفت أنه لصّ وكذّاب وواشٍ، مماثلة لحكاية سليم مع حبيبته مليكة ذات العينين الملونتين التي تزوجت وغادرت من دون أن تعلمه بذلك.
ومعرفة إيفانا لاحقاً أن مرض أختها هو بسبب تعرضها لاغتصاب وحشي إذ تناوب عليها ثمانية رجال. طبعاً لم يكن حال إيفانا أفضل بكثير؛ إيفانا المُغتصبة من قبل صديقها بوريس في مدينتها سراييفو الذي استغلّ شغفها بالمسرح، والمغتصبة أيضاً في مدينة ليوبليانا من قبل صاحب المقهى الذي استغل حاجتها للعمل.
ومن ثم تأتي مقارنة إيفانا لذاتها مع والدتها: “نحن متساويتان في الهزائم يا أمي، نعلم ولا نتكلم. نحن امرأتان خارجتان من فم الشؤم”.
هنا تبرز مصداقية ومسؤولية الراوي تجاه الماضي والحاضر معاً، وحرصه ألّا ينفي أحدهما الآخر، وهكذا انعكست تلك التناقضات المتبادلة فيما بينهما إيجاباً على السرد بل وزادته حيوية.
في الختام عادت إيفانا إلى سراييفو لتكمل مسرحيتها وتحقق حلمها في عرضها على المسرح. وكذلك سليم آثر العودة إلى الجزائر ليصدر وصديقه جريدة رادار، ولو أنه سيضطر لاحقاً للترحال مجدداً بسبب التهديد.
ليس ثمة أحداث مبتكرة أو مُبالغ فيها في رواية “حطب سراييفو”، أي أن الكاتب لم يتعمّد المبالغة في تصوير معاناة أبطاله، ولا تقمّص دور الواعظ، بل انصبّ تركيزه على نقل اللقطات التسجيلية للحرب بأمانة معتمداً على ذاكرة بصرية وروحية مشبعة بالألم والفقد، وذاكرة عامة عن حكايات الناس العاديين المنخرطين رغماً عنهم في متاهات الحروب والسياسة التي ستصنع التاريخ وترسم الجغرافيا.
“سراييفو تشبه حرباء ضجرة، لا تنوّع في ألوانها فقط بل في آلامها أيضاً”.

لينا شدود – الميادين نت

World Opinions | Débats De Société, Questions, Opinions et Tribunes.. La Voix Des Sans-Voix | Alternative Média

تصفح ايضا

فيلم “أنورا” يحصل على السعفة الذهبية.. تعرف على جوائز الدورة الـ 77 لمهرجان كان السينمائي.. فيديو

حصل فيلم "أنورا" (Anora)، اامخرج الأمريكي شون بيكر، على السعفة الذهبية، وهي الجائزة الكبرى في المهرجان. واعتبرت رئيسة اللجنة تحكيم المنافسة الرسمية "هذا الفيلم رائع ومليء بالإنسانية (…) لقد حطم قلوبنا".

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Solve : *
9 + 13 =