“المسرح والتراث” كتاب يبحث في كيمياء الفرجة عند العرب

التغيرات التي وقعت في المجتمعات العربية مكنت التراث من أن يحضر عبر الفرجة باعتباره امتدادا للماضي في المستقبل.

لطالما أثارت مسألة التراث الكثير من المطارحات الفكرية، فتناولها العديد من الباحثين والمفكرين والأدباء منذ بداية عصر النهضة العربية التي قامت أساسا على العودة إلى التراث واستلهامه من أجل النهوض بواقع الأمة العربية، كما طرحت مسألة التراث في الدراسات المسرحية لإثبات الأنا مقابل الآخر، وهو ما يحاول مناقشته الباحث والأكاديمي المغربي عبيد لبروزين في دراسته النقدية “المسرح والتراث: الجدل الفكري والتحوّلات الكبرى”.
يعرّف محمد عابد الجابري التراث بأنه “كل ما هو حاضر فينا أو معنا من الماضي، سواء ماضينا أم ماضي غيرنا، سواء القريب منه أم البعيد”، وهكذا يكتسي المفهوم طابعا عاما وشموليا لأنه يرتبط بكل ما أنجز في الماضي سواء كان مرتبطا بنا أو بغيرنا، “فللتراث دلالته الواسعة؛ التي تقع على كافة ما تركه لنا السابقون من: علوم ومعارف ومبانٍ وعمائر وفنون.. وغير ذلك”.
ومن خلال هذين التعريفين، يتأكّد أن التراث ببساطة هو ما خلفه السلف للخلف وقد يكون ماديا من بنايات وملابس وأوانٍ وأدوات… أو معنويا مثل الشعر والحكاية والأسطورة.
غير أن ما يركّز عليه الباحث المغربي عبيد لبروزين في دراسته هو العلاقة بين المسرح والتراث.
وعن ذلك يقول “بالرغم من أن المسرح فن عرفته الحضارات القديمة، وقد أخذ شكله الحالي في الحضارة الإغريقية وبهذا يتحوّل برمته إلى تراث أيضا، لكن دعونا نقف عند دلالة المسرح الذي يعرّف بكونه في جوهره عملا يقوم على عرض المتخيل. وبأنه عمل إبداعي يفترض الصنعة ويوحي بأنه حقيقي. وهو يعرّف أيضا بكونه فنا مزدوجا يقوم على العلاقة بين مكونين هما النص من جهة والعرض الذي يشكل غائية المسرح من جهة أخرى”.


الكتاب يُقدّم مجموعة من التصوّرات المفتوحة مجسّدا عددا من الرؤى المسرحية وفق سيرورة كرونولوجية الكتاب يُقدّم مجموعة من التصوّرات المفتوحة مجسّدا عددا من الرؤى المسرحية وفق سيرورة كرونولوجية

وبالتالي فالمسرح يحمل العديد من الدلالات بين ما يُطلق على الجانب الكتابي الذي يحوّل الكلمة إلى مشهد، والجانب المرئي الذي يشمل الممثل والمتلقي.
وانطلق الباحث عبيد لبروزين من مفهوم المسرح والتراث ليغوص داخلهما رغم أنهما مفهومان تصعب الإحاطة بهما من كل الجوانب، فاختار أن يتعمّق في حيثيات التجاذب المستمر بين المسرح والتراث، أو بصيغة أخرى كيف وظّف المسرح التراث؟ أو ماذا استفاد المسرح من التراث؟
والكتاب/ الدراسة يسافر بالقارئ في مجموعة من التصوّرات المفتوحة ويجسّد عددا من الرؤى الفكرية وفق سيرورة كرونولوجية، حيث قسم الباحث المغربي التفاعل بين المسرح والتراث إلى 3 أبعاد.
شمل البعد الأول الرؤية السلفية لإحياء التراث في المسرح أثناء مواجهة العرب للاستعمار، فيما تحدّث في البعد الثاني عن توظيف التراث لنقد الواقع وتغيره، وذلك ما بعد الاستعمار، وأخيرا توظيف التراث توظيفا جماليا من خلال التقنيات المسرحية الحديثة خلال الألفية الثالثة.
واعتبر الباحث عبيد لبروزين في البعد الأول أن العودة إلى التراث كانت أمرا طبيعيا رغم التعامل السطحي معه على خشبة المسرح، حيث كانت الفرجة عبارة عن خطب مسرحية مباشرة تفتقد إلى الحس الفني، ولذلك يقول “بالرغم من انتقادنا للرؤية السلفية للتراث، إلاّ أنه يجب استحضار سياقها التاريخي، ونحن هنا نعتقد أن لها ما يبرّرها”.
أما في البعد الثاني فقد وظف التراث لنقد الواقع الاجتماعي وهو توظيف براغماتي كما وصفه صاحب الكتاب، وقد لاحظ الكاتب أن هذه “الانعطافة في التعامل مع التراث بإيعاز من رواد المسرح الغربي الذين نصحوا المسرحيين العرب باستلهام التراث لإقامة مسرح عربي أصيل،
كما كان تأثّرهم بالمفكرين عاملا آخر في تحديد طريقة التعامل معه، إنه توظيف من أجل انتقاد الواقع السياسي والاجتماعي”.

توظيف التراث في نقد الواقع الاجتماعي

وفي البعد الثالث تطرّق الباحث المغربي إلى كيفية توظيف التراث توظيفا جماليا في الألفية الثالثة من خلال مسرحته، حيث يرى بأن المسرح تخلى عن الأيديولوجيات القديمة مقابل التأثير الفني والجمالي، وهي رؤية حداثية متجددة ولذلك يعتقد أن “هيمنة البعد الجمالي في توظيف التراث تحتكم إلى التغيرات التي وقعت في المجتمعات العربية، فأصبح التراث يحضر من خلال الفرجة باعتباره امتدادا للماضي في المستقبل، ويتجلى من خلال الأمثال الشعبية التي تشكل ذاكرة المجتمع الأخلاقية، فضلا عن حضور الشخصيات التاريخية والتراثية التي يسعى من خلالها كل من المؤلف الدرامي والمخرج المسرحي للتعبير عن رؤيته الفنية للحدث الذي تعالجه المسرحية”.
وبالرغم من أن كتاب “المسرح والتراث” يقع في ستين صفحة فقط، إلاّ أن الكاتب استطاع تسليط الضوء على جانب مهم من علاقة المسرح بالتراث عبر دراسة نقدية ترنو إلى إيضاح العلاقة القائمة بين المسرح والتراث في ظل التحوّلات الفكرية الكبرى. غير أن عبيد لبروزين لم يُجب عن سؤال مؤرق، أساسه من الذي استفاد من الآخر المسرح أم التراث؟

فضاء الآراء الثقافية – العرب اللندنية

World Opinions | Débats De Société, Questions, Opinions et Tribunes.. La Voix Des Sans-Voix | Alternative Média

تصفح ايضا

فيلم “أنورا” يحصل على السعفة الذهبية.. تعرف على جوائز الدورة الـ 77 لمهرجان كان السينمائي.. فيديو

حصل فيلم "أنورا" (Anora)، اامخرج الأمريكي شون بيكر، على السعفة الذهبية، وهي الجائزة الكبرى في المهرجان. واعتبرت رئيسة اللجنة تحكيم المنافسة الرسمية "هذا الفيلم رائع ومليء بالإنسانية (…) لقد حطم قلوبنا".

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Solve : *
11 × 30 =