السياسة فن المُمكن، لكن في تركيا حالياً، أضحت السياسة التي يُمارسها كمال كليجدار أوغلو، لتحسين فرص فوزه في جولة الإعادة الرئاسية أمام الرئيس رجب طيب أردوغان في 28 مايو الجاري، فن غير الممكن.
لا شك أن الوصول إلى السلطة يفرض في بعض الأحيان تغليب المصالح على المبادئ. السياسيون الأذكياء يمتلكون موهبة في الموازنة بين المصالح والمبادئ. لكني أجد أنه من الإنصاف الإقرار بأن كليجدار أوغلو أثبت، في السنوات الأخيرة، أنّه أكثر من مُجرد معارض لا يستطيع الخروج من ظل أردوغان.
لقد بنى شبكة معقّدة من التحالفات، واستطاع توحيد معظم أحزاب المعارضة خلفه بهدف التخلص من حكم أردوغان. مع ذلك، كان من الواضح أن المعارضة تواجه مُشكلتين رئيسيتين لم تستطع تجاوزهما. الأولى كليجدار أوغلو الذي فضّل طموحاته الشخصية على مصالح المعارضة، عندما فرض ترشحه بالقوة ولم يتردد في ممارسة المحظور أحياناً لتحقيق هذا الهدف. لقد خاطر بوحدة التحالف “السداسي” وأخرج خلافاته إلى العلن في أزمة المرشح المشترك، ودخل في تحالف مع حزب “الشعوب الديمقراطي” الكردي، معتقداً أن انكسار حلفائه القوميين بعد الأزمة القصيرة للتحالف سيحدّ من أضرار العلاقة مع حزب الشعوب على جبهة المعارضة.
أما المشكلة الثانية، فتمثلت في هندسة كليجدار أوغلو للتحالفات الحزبية. لقد أمضى أسابيع في التودد للصوت الكردي من دون التفكير حتى في كيفية طمأنة الناخب القومي المعارض، الذي بدأ الهاجس لديه يكبر من “صفقة تحت الطاولة” بين كليجدار أوغلو وحزب “العمال الكردستاني” المحظور. كما غامر في منح أحزاب صغيرة محافظة في التحالف السداسي نسبة كبيرة من المرشحين البرلمانيين على قوائم حزب “الشعب الجمهوري” من أجل ضمان دعمها له في ترشيحه الرئاسي، لكنه لم يكسب من الأصوات المحافظة سوى القليل.
كنتيجة لهاتين المشكلتين، جاءت النتائج التي حصدتها المعارضة في انتخابات 14 من مايو مؤلمة للغاية. لم يفشل تحالف “الأمة” وتحالف “العمل والحرية” الذي يقوده حزب “الشعوب الديمقراطي” في السيطرة على البرلمان الجديد فحسب، بل وجد كليجدار أوغلو نفسه متأخراً بفارق يقل بقليل عن 5 نقاط مئوية عن الرئيس رجب طيب أردوغان في الجولة الرئاسية الأولى.
يبدو من الصعب للغاية على كليجدار أوغلو أن يعكس المد الانتخابي لصالحه في جولة الإعادة. لكنّه لن يتوقف عن المحاولة؛ لأن إرثه السياسي سيكون على المحك. هزيمة في الرئاسة لن تعني هزيمة للمعارضة، بل ستؤدي على الأرجح إلى كتابة السطر الأخير من التاريخ السياسي لكمال كليجدار أوغلو.
من أجل تجنّب هذا المصير، بدأ كليجدار أوغلو التودّد للأصوات القومية المتطرفة من أجل تحسين فرصه في جولة الإعادة عبر تبني خطاب متشدد تجاه المهاجرين واللاجئين السوريين على وجه الخصوص. من المفهوم أن زعيم المعارضة سيبذل كل ما بوسعه للفوز، وهذا مشروع في اللعبة الانتخابية إذا لم يخرج عن الإطار الواقعي والأخلاقي، لكنّه بدا متحرراً من أية قيود، ويضغط على جميع الأزرار دفعة واحدة وفي الوقت الضائع. مع أن أحزاب المعارضة الرئيسية لم تترك فرصة لتوظيف قضية اللاجئين السوريين في منافستها الانتخابية، إلا أنّها ظلّت حتى وقت قريب حذرة في مقاربتها لتجنب الوقوع في المحظور.
في حملته الانتخابية، وعد كليجدار أوغلو بالعمل على إعادة اللاجئين السوريين خلال فترة عامين، وبعد إبرام اتفاق مع النظام السوري بالتنسيق مع الأمم المتحدة من أجل ضمان سلامتهم. لكنّه الآن ينجرف أكثر نحو الخطاب المتشدد تجاه اللاجئين من خلال التعهد بإعادتهم إلى بلادهم بشكل فوري في حال وصوله إلى السلطة. لم يكتشف كليجدار أوغلو مؤخراً أن هؤلاء اللاجئين والمهاجرين يستحقون هذا الخطاب المتشدد، بل لأنه يعتقد نفسه أن مثل هذا الخطاب قد يُنجيه من كارثة انتخابية أخرى محتمَلة بعد أقل من أسبوعين.
لا يسع المرء أن يُفكر في مثل هذه اللحظات سوى بالكيفية التي ستُدير بها تركيا ملف اللاجئين والمهاجرين الأجانب، وهي أكثر دولة تحتضن اللاجئين والمهاجرين في العالم، في حال وصل كليجدار أوغلو إلى الرئاسة.
ما قد يُخفف من القلق هو أن الخطاب المعادي للمهاجرين فرضته ظروف انتخابية. والوعود الانتخابية تمحوها السلطة. قد يكون ذلك صحيحاً، لكنّ المخاطر قائمة بالفعل. النزعة العدائية تجاه المهاجرين عموماً تنمو في الخطاب السياسي العام لدى أحزاب المعارضة. وهناك حملات إعلامية منظمة في الداخل تعمل على تشكيل تصور مُضلل بأن اللاجئين والمهاجرين يتسببون في أزمات تركيا الاقتصادية والأمنية. إذا كان هناك من شيء يُحسب للرئيس رجب طيب أردوغان وحكومته في قضية اللاجئين والمهاجرين، فهو أنّه لم يسمح للسلطة بالانجراف نحو تبني هذه النزعة العدائية، حتى في الوقت الذي كان يدفع فيه ثمن احتضانه للاجئين السوريين في الانتخابات المحلية الأخيرة.
من الواضح أن جانباً من تودد كليجدار أوغلو لتحالف “الأجداد” القومي المتطرف لا يرجع فقط إلى الرغبة في استمالة ناخبيه، بل يعكس أيضاً مأزقاً أكثر صعوبة يواجهه، وهو كيفية الموازنة بين تحالفه مع حزب “الشعوب الديمقراطي” الكردي وبين محاولة استقطاب الأصوات القومية “المتمردة” على التحالف السداسي. يبدو كليجدار أوغلو مضطراً للسماح لشخصية قومية متطرفة كسنان أوغان برسم الجزء الأخير من لعبته الانتخابية. كما لم يستطع الموازنة بين التودد للصوت الكردي وبين طمأنة الناخب القومي، فإنه الآن غير قادر على الموازنة بين التودد للصوت القومي وبين مخاطر ابتعاد جزء من الناخبين الذين صوتوا له في الجولة الأولى. الفرص الكبرى لا تأتي في كل مرّة، لكنّ تفويتها وعدم التعامل معها ببراعة يجعل من آثار الفشل في إدارتها مُدمرة في أغلب الأحيان.
محمود علوش – باحث في الشأن التركي والعلاقات الدولية