تأخير المعالجات يعمق الأزمة الاقتصادية في تونس

التونسيون ينتظرون من الحكومة أن تخرج من حالة الانتظار وتكشف عن خططها للإصلاح الاقتصادي وكيفية إخراج البلاد من الوضع الصعب الذي تعيشه، وكيف ستوظف قرض صندوق النقد الدولي، ومدى قدرتها على تنفيذ إصلاحات قاسية يمكن أن تضعها في مواجهة الشارع الغاضب.

تقتصر المعالجة الاقتصادية للأزمة التي تعيشها تونس على إدارة الملف من خلال تأمين قروض صغيرة من الاتحاد الأوروبي لتأمين الغذاء والرواتب الحكومية، وانتظار ما سيأتي.

وتعلق الحكومة كل آمالها على قرض صندوق النقد الدولي الذي لا يعرف متى يتم الاتفاق بشأنه، وهل هذا ممكن على المدى القريب، فالصندوق، وقياسا بتجارب سابقة، يأخذ وقته في تأمين الشروط اللازمة قبل دفع الأموال، ولن يكتفي بجلسة أو جلستين، وربما يدفع على مراحل بهدف اختبار نوايا الحكومة ومدى قدرتها على تنفيذ ما تتعهد به، وخاصة اختبار نوايا شركائها الاجتماعيين، وهل هم قادرون فعلا على شد الأحزمة وتقديم التنازلات المؤلمة لمساعدة البلاد في تأمين خروج آمن من المرحلة الصعبة.

لن يكتفي الصندوق بنوايا وتعهدات عامة، وهو سينتظر حتى تشرع تونس في الإصلاحات ويرى رأي العين أنها دخلت مرحلة تقشف قاس لتطويق الأزمة المالية. لن يعطي الأموال لتنفق في زيادة الرواتب وترضية اتحاد الشغل من أجل شراء السلم الاجتماعي كما كان يحدث في السنوات العشر الأخيرة، حيث تحولت القروض المختلفة إلى وقود للتسويات السياسية والاجتماعية، ولم يستفد الاقتصاد منها شيئا.

من المهم أن تتجهز الحكومة لخطة الإصلاحات القاسية ليس على الورق، ولكن على أرض الواقع، وأن تدرس حكاية التقليص التدريجي للدعم مقدمة لرفعه خلال مدة لن تتجاوز خمس سنوات وفق الخطط المعروفة للصندوق. كيف يمكن أن ترفع الدعم الذي تعوّد به الناس خلال عقود وتقدم مكانه مساعدات مالية للفئات محدودة الدخل، وما هي هذه الفئات، هل ستقف عند قوائم الأسر التي دأبت الحكومات المتتالية على إعطائهم مساعدات مالية بمئتي دينار تونسية (60 دولارا في الشهر).

صندوق النقد لن يكتفي بنوايا وتعهدات عامة، وهو سينتظر حتى تشرع تونس في الإصلاحات وتدخل مرحلة تقشف قاس

وهل هذه المساعدة قادرة على تأمين الحد الأدنى لهذه الأسر في ظل الارتفاع الحاد للأسعار، وكيف ستتعامل مع الفئات الأخرى التي سيهزها قرار تقليص الدعم أو رفعه بشكل متسارع، خاصة أن الطبقة الوسطى، التي تشكل الغالبية، وهي من موظفي الدولة والعاملين في القطاع الخاص قد تتحول بدورها إلى فئة محدودة الدخل في ظل الوضع الاقتصادي الحالي.

كما أن قرار تقليص الدعم أو رفعه ليس قرارا إداريا يمكن التوقيع عليه والدفع به إلى التنفيذ. إدارة الأزمة بالعقل التكنوقراطي البارد والجاف قد يقود إلى انفجار اجتماعي كبير، مثلما حصل في “ثورة الخبز” في العام 1984، حيث ضاعفت الحكومة سعر الخبز فخرج الناس إلى الشوارع في احتجاجات سيطر عليها العنف ما اضطرها إلى التراجع عن القرار.

ومن المهم أن تأخذ الحكومة التحركات الليلية في الأحياء الشعبية المحيطة بالعاصمة مثل دوار هيشر وحي التضامن (غرب)، وما جرى في مرناق (جنوب) مأخذ الجد، فالناس حين تعجز عن تأمين القوت لن تسكت طويلا. قد يكون هذا الحزب أو ذاك قد حرّك هذه الاحتجاجات المحدودة، لكن المناخ الاجتماعي المتوتر والمتحفز قد يخرج عن السيطرة في أيّ وقت ولن ينفع معه خطاب التوظيف من المعارضة أو الحكومة.

لا تنس الحكومة أن الناس لا يفهمون الأبعاد السياسية للأزمة وخلفياتها والمسؤولين عنها، ولا يهمهم إن كان ما يجري مؤامرة، ما يهم هو القوت في أحياء شعبية يسيطر عليها الفقر والعمل الوقتي أو العرضي وتوجد بها فئات شبابية غاضبة من الدولة ومستعدة لتحديها بسبب فشل السياسات الحكومية منذ ثمانينات القرن الماضي تجاه الأحزمة السكانية المحيطة بالمدن الكبرى.

وقد تظاهرت هذه الأحياء وتصادمت مع قوات الشرطة في فترات سابقة بما في ذلك زمن حكم الرئيس الراحل زين العابدين بن علي ثم حكومات ما بعد الثورة، وهي يمكن أن تتصادم مع حكومة الرئيس قيس سعيد بالرغم من أن هذه الأحياء هي التي انتخبته في 2019 بنسب عالية بسبب كراهيتها لمرحلة سياسية سيطرت عليها الفوضى والإهمال وتهميش القضايا الاجتماعية والاقتصادية التي تهم الناس.

لا شك أن ثقة الناس في قيس سعيد ما تزال عالية، لكن الأزمة الحالية ستكون اختبارا جديا لهذه الثقة، فقد جاء بهدف واضح، وهو مكافحة الفساد وتحقيق ما فشل فيه الآخرون في تأمين العيش الكريم للناس وتأمين فرص العمل وتحريك الاقتصاد، واستعادة الدولة الفاعلة والتي تعطي البعد الاجتماعي أهمية كبيرة. والناس يحتاجون أن يروا نتائج في هذا الطريق والذي لأجله كرهوا الديمقراطية والبرلمان والأحزاب ودعموا عودة النظام الرئاسي الحازم ووجود رأس واحد للسلطة يفعل ما يريد ليقدر الناس على محاسبته وسؤاله.

يمكن للحكومة أن تصارح الناس بما تخطط له كي تقدر على طمأنتهم أو الأقل وضعهم في صورة الصعوبات التي تعيشها. الصمت لا يحل المشكلة، وتصريحات الوزراء إلى حد الآن تبدو اجتهادات شخصية لطمأنة الناس مع أنها تدخل أحيانا في التناقض بين وزير يقول إن الحكومة لن تقلص الدعم ووزير آخر يقول إن الدعم سيكون تدريجيا ويضعه له سقفا زمنيا.

هذه الازدواجية تزيد من مخاوف الناس وقلقهم على المستقبل، ولذلك يجب أن تختص رئيسة الحكومة نجلاء بودن بتحديد السياسات العامة في هذه المواضيع على أن يتكلم الوزراء في المسائل التفصيلية بالشرح أو الاقتراح لا أن يعوض رئيسة الحكومة التي من المهم أن تظهر للإعلام وتعطي تصريحات وتجري حوارات وتتخلى عن الحذر والحسابات، وهو ما سيقربها من الناس وتقدر بواسطة ذلك على مصارحتهم بحقيقة الأوضاع.

مناطق فقيرة قد تعيد الحراك في أي لحظة

الإيحاء بأن الأوضاع جيدة، وأن المشكلة تكمن في المحتكرين والمتآمرين والتلويح برد حكومي حاسم، يضر بالحكومة أكثر مما يفيدها. فهذا الخطاب طال أكثر من اللازم، وبدأ الناس يتساءلون عن مصداقيته وهل أنه فعلا يمثل كل المشكلة أم أن هناك واجهة أخرى لا تريد الحكومة أن تتحدث فيها أو تتهرب منها.

من المهم أن تصارح الحكومة الناس بحدود إمكانياتها وخاصة بأوضاعها المالية، وهو ما يحدد قدرتها على تحقيق المطالب والخطط التي ينتظرونها، ويحدد في نفس الوقت سقف انتظارهم منها. يجب أن تتصرف الحكومة بعيدا عن السياسة، بمعنى لا تحسب حساب أن المكاشفة يمكن أن يستفيد منها الخصوم كورقة في نقدهم لها، وإظهار غياب الحلول لديها، فهم أيضا كانوا في السلطة ولم يقدروا على تحقيق أي نتائج. المهم هو الناس.

إلى حد الآن لم تقل حكومة بودن للتونسيين بشكل صريح ومباشر ما هي الأضرار التي لحقت بالاقتصاد التونسي جراء الحرب في أوكرانيا، وتأثيرها على القمح والذرة والأسمدة، ولماذا ترتفع الأسعار، وحكاية التوريد ومعضلة العملة الصعبة وتراجع الدينار، وما هي فرص التمويل الخارجي عدا عن قرض صندوق النقد الذي تتفاوض لأجله، وماذا ستفعل به، هل ستغطي به النفقات والرواتب أم ستضخه في الاستثمارات، وما هي برامجها ومشاريعها.

هل ستلجأ كما فعل سابقوها إلى توظيف القرض المأمول من صندوق النقد في طريق الأسلوب السهل بإسكات الغاضبين من خلال مساعدات مالية ظرفية في المناسبات مثل بداية السنة الدراسية والجامعية ورمضان وعيد الأضحى، أو ستستمر في طريق خلق مواطن العمل الهشة التي تثقل ميزانية الدولة مثل الحظائر، وشركات البستنة التي تشغل الآلاف من الموظفين دون وظائف ولا مهام.

من المهم أن يسمع التونسيون كيف تفكر الحكومة وتخطط وتنظر إلى المستقبل فقد يطمئنهم هذا الخطاب ويقرروا التحمل وانتظار أن تنفرج الأزمة. لكن لا يجب أن تستمر في الغموض وتترك للخصوم السياسيين ومواقع التواصل مهمة التأويل والتفسير والاستنتاج ثم تحدثنا لاحقا عن المؤامرة والاستهداف السياسي.

مختار الدبابي – كاتب وصحافي تونسي

World Opinions | Débats De Société, Questions, Opinions et Tribunes.. La Voix Des Sans-Voix | Alternative Média

تصفح ايضا

الانتخابات المحلية التونسية أو لزوم ما لا يلزم

الانتخابات المحلية التي شهدتها تونس 24 ديسمبر/ كانون الأول الجاري هي المحطّة الانتخابية الرابعة بعد استفراد الرئيس قيس سعيّد بالحكم يوم 25 يوليو/ تموز 2021، فقد سبقتها الاستشارة الشعبية الإلكترونية والاستفتاء على الدستور يوم 25 يوليو/ تموز 2022 والانتخابات البرلمانية في دورتين يوم 17 ديسمبر/ كانون الأول من السنة نفسها و29 يناير/ كانون الثاني 2023.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Solve : *
17 × 3 =