ما دمنا نتّجه نحو بناء جمهورية جديدة تبشّر بمنافع وخيرات للناس،وكتابة دستور جديد يضمن كرامة التونسيين/ات ويحقّق لهم العدالة والسعادة والرفاه،والعهدة على القائل، فلا بأس أن نطالب القائمين على هذا المشروع الواعد بالردّ على نداء الاستغاثة الذي أطلقه الناشطون الجمعاويون في مجال البيئة حين وجّه أحدهم رسالة استغاثة من «عاصمة النفايات» مطالبا الرئيس بالتدخّل الفوري.
ويبدو أنّ الوضع «الكارثي» الذي تعيشه البلاد بصفة عامة، ومدينة صفاقس على وجه الخصوص، قد جعل هذا الناشط يكفر بمؤسسات الدولة فلا رئاسة الحكومة ولا وزارة البيئة قادرتين على استنباط الحلول، وحده ‘قيس سعيّد’ من يملك سلطة القرار والحسم. ويذّكرنا هذا التوجه بالرسائل والمطالب التي كان يتقدّم بها عدد من التونسيين إلى الزعيم بورقيبة كلّما سمعوا بزيارة مقرّرة لجهة من الجهات فهو الأب/الحامي.
«أختنق …لا أستطيع أن أتنفّس» شعار رُفع ضدّ السلطة القمعية والشرطة في الولايات المتحدة الأمريكية ولكنّه انتقل إلى مختلف بلدان العالم ليغدو شعارا معولما معبّرا عن مطالب مختلفة تتعلّق بالعدالة والمساواة والحريّة ومناهضة التمييز… وها هو يتحوّل إلى شعار يردّده المواطنون في بلادنا، كلّما ضاق بهم الحال وصاروا يكابدون التلوث الهوائي والتلوث المائي والتلوث الضوضائي وتدهور التنوع البيولوجي، واستنزاف الموارد البحرية وغيرها من المشاكل.
«أختنق …لا أستطيع أن أتنفّس» هي صيحة فزع ونداء استغاثة يُوجّه لمن به صمم … لحكومة اختارت الصمت وسيلة للتفاعل مع الأزمات التي لا تمثّل أولوية في نظر المشرفين/ات عليها أو التي تفضح العجز والتقصير عن معالجة الوضع بطريقة جوهرية.
لا تفصح الحكومة عن مخططها التنموي وعن الاستراتيجية المعتمدة لمواجهة قضايا البيئة لأنّها ببساطة لم تنجز خطّة شمولية لوضع بيئي متكامل ولم تعمل على ملفّ توعية المواطن بأهمية الاهتمام البيئي على المستوى الرسمي والشعبي بل آثرت التنصّل من المسؤولية نحو البيئة ومن ضرورة حمايتها للأجيال.
القادمة، ولم تحاول سدّ الفجوة بين التشريعات والسياسات البيئية لتنظيم استغلال المصادر الطبيعية، وصيانتها وبين الواقع المعيش فلا شرطة البيئة نفعت ولا قانون منع استعمال البلاستيك (2017) ولا غيره.
ومادامت سياساتنا التربوية والتعليمية والإعلامية والثقافية لا تبالي بإعادة النظر في أنماط من السلوك التي لا تنم عن الإحساس بالمسؤولية تجاه البيئة، ولا تكترث بالتمحيص في علاقة الإنسان مع بيئته كأحد أساليب التقييم لمعرفة المشاكل البيئية وتحديد المهارات اللازمة لحلّها فإنّ التفكير في وضع خطة
إستراتيجية وطنية عن البيئة غير وارد ولا يمثّل رهانا حقيقيا عند واضعي الأجندا السياسية الحالية.
وعندما تتنصّل الدولة من أداء واجبها وتوفير الخدمات الأساسية للمواطنين وتلقي بالمسؤولية على عاتق مختلف الجمعيات التي تعمل على بثّ القيم الأخلاقية في التعامل مع البيئة وتوعية الناس بتغيير سلوكهم الاستهلاكي فإنّ الاستنتاج الذي نخرج به هو أنّ الدولة باتت تساهم في صنع الهشاشة وتحويل المواطنين إلى أفراد يعانون من هشاشات مختلفة تحول دون تحقيق فاعليتهم في مجالات مختلفة.
ليس تلوّث الهواء وحده ما يجعل المرء يشعر بالاختناق، بل توحّش الأنظمة الاقتصادية ونقص إنسانية الإنسان وانعدام الشعور بالمسؤولية وفقدان أخلاق الرعاية لدى أصحاب القرار. فنحن لا نستطيع التنفّس حين نرى خيام اللاجئين على الأرصفة ولا أحد يكترث ، ولا نستطيع التنفس حين نشاهد الجثث التي يلقي به البحر يومياً، لشبان وشابات ونساء ورجال ورضّع تكدسوا فى قوارب غير مهيأة لحمل أطنان الأحلام …ونحن نختنق حين نعاين خروج النساء مطالبات بحقهن في الماء ….ونختنق حين تغيب المساءلة والمحاسبة ويتمأسس الإفلات من العقاب.