نجدلُ من السَّعفِ تاجًا للوطن

الدينُ لله، والوطنُ لَمن يسقي بالحبّ أرضَ الوطن، ويجدلُ من السَّعف تاجًا لمجد الوطن. في طفولتي وفي مثل هذه الأيام الربيعية الجميلة، كنتُ أنا وأطفالُ مدرستي وأطفالُ الجيران في شارعنا نجمعُ عيدانَ السَّعف الخضراء، ونتبارى في جدلها لنصنع أشكالا جميلة نُعلّقُها في غرفنا، حتى تجفَّ ويذهبَ الرِّيُّ عن نُسغها؛ فتتحولُ من الأخضرِ إلى الأصفر الذهبيّ المُشعّ؛ كأنها مرويةٌ بماء الشمس.

أجدلُ شرائحَ السَّعف تاجًا لأمي، وخاتمًا لأبي، وأساورَ ولُعبًا لي ولأصدقائي. وكانت أمي تشتري باقةً خضراءَ من سنابل القمح المصري الثمين، وتعلّقها على باب الشقة تيمُّنًا بالبركة والرغد والسلام. وكنتُ أرقبُ السنابل وهي تجفُّ يومًا بعد يوم؛ حتى تتحوّل إلى شعلة من الذهب السحري، تجلبُ الخيرَ إلى بيتنا وتحمي أسرتنا من عيون الحاسدين، كما كان يؤمن أجدادي المصريون القدامى.

ونحن صغار، لم يكن يعنينا إن كان هذا عيدَنا أم عيدَهم! لم تدخل معاجمَنا ضمائرُ الغائبين ولا كلماتُ الفُرقة: عيد المسلمين – عيد المسيحيين. كنّا نفرحُ معًا ونحتفلُ بأعيادنا معًا؛ لأن مصرَ الطيبةَ تجمعُنا معًا، وتعلو بنا معًا، تحت مظلة الإنسانية الواسعة. علّمني أبي وأمي أننا جميعًا نعبدُ إلهًا واحدًا، كلٌّ يراه عبر منظوره، ويعبده وفق طقوسه، لهذا علينا أن نحترم الجميع ونحبَّ الجميع.

في هذه الأيام الطيبة ندعو الَله أن نصطفّ جميعًا، نحن المصريين، قلبًا واحدًا وحُلمًا واحدًا ويدًا واحدة تبني وتكدُّ وتجدُّ، حتى نحملَ أكاليلَ السَّعف لنستقبل بها مصرَ الكريمة رفيعةَ المقام في “الجمهورية الجديدة” التي انبعثت من رقادها وتعلو يومًا بعد يومٍ حتى تصير دُرّةَ تاج العالم؛ كما يليق بها أن تكون.

نصطفُّ نحن المصريين على الجانبين لنستقبل مصر البهية حاملين أعلامَ الوطن وسنابلَ القمح، كما اصطفّ أهالي القدس الشريف، منذ ألفي عام، حاملين أغصانَ الزيتون والسعف لاستقبال السيد المسيح، رسول السلام عليه السلام، حين دخل أورشليم القديمة منتصرًا مكللاً بأوراق الغار.

نحن المسلمين صائمون شهرَ رمضان المعظّم، وأشقاؤنا المسيحيون صائمون صيامَهم الكبير، يفطرون في عيد القيامة المجيد، ونفطر في عيد الفطر المبارك. ونرفعُ معًا أيادينا للسماء ضارعين بالدعاء لله أن يحمي مصرَ ونيلَ مصرَ وشعبَ مصرَ وجيش مصر الباسل، ويحفظ رئيس مصر العظيم “عبد الفتاح السيسي” حتى يتممَ نهضتنا المشهودة المنشودة.

يجمعنا نحن المصريين حبُّ مصرَ، وتجمعُنا طريقُ الآلام الوعرة التي مشت عليها مصرُ حتى عادت لنا حرّةً من قبضة بني صهيون ومن أنياب بني الإخوان، تمامًا كما سار السيد المسيح، طريقًا وعرة من باب الأسباط حتى كنيسة القيامة، في مثل هذا الأسبوع، أسبوع الآلام، قبل ألفي عام.

بعد أسبوع الآلام هذا، سيحتفلُ أشقائي مسيحيو مصرَ بعيد القيامة، ثم نحتفل بعدهم بعيد الفطر المبارك. كل سنة وأقباط مصر مسلمين ومسيحيين بخير وفرح وأمان ومحبة، ومصر في حرية وتحضّر. كلّ عام ونحن نجدل معًا أغصان السلام والمحبة ونبني مصر العظيمة.

نحن المصريين نعرفُ كيف نحبُّ. ولا نسمحُ لأحد بأن ينتزعَ المحبةَ من قلوبنا ليزرع مكانها بذرة البغضاء والشقاق والطائفية. غيابُ الحبّ أصلُ كلّ شرور العالم. فاجلسْ الآن إلى طاولتك واجدلْ شيئًا من السعف لمن تحبّ. ثم افحصْ قلبَك. قلبك يخفق؟ إذن أنت بخير، ولا خوفٌ عليك. أنت بخير حين تتيقّن أن قلبك مازال قادرًا على الحب، رغم ما تصادفه في حياتك من قبح. الحبُّ نعمةٌ هائلة لا يدرك معناها إلا ذوو القلوب النظيفة الخافقة.

أما ذوو البلادة القلبية فليس لهم إلا الشفقة والدعاء لهم بأن يتعلّموا كيف أحبّنا الله، ولم يطلب منّا سوى أن نحبه ونحب خلقَه فنُعمّر الكون بالرغد والسلام. أنت تحب، إذن أنت إنسانٌ سويّ. أحببْ حبيبتك، أحببْ أخاك، أحببْ جارك، أحببْ عدوك، أحب الحيوانَ والطير والشجر. أحب الكون، فتكون بهذا مُحبًّا لله. “الدينُ لله، والوطن لمن يسقي بالحبّ أرضَ الوطن.”

عيدانُ السعف الخضراء مع الباعة في كل مكان، تنتظر أن يجدلها الجادلون. عزيزي القارئ الجميل، ابتسم في وجه الصبايا يعتمرن على رؤوسهن التيجان المجدولة من السعف، ويضعن الخواتمَ والأساورَ وزهراتِ اللوتس، ثم لوّح لهنّ من سيارتك مبتسمًا وأنت تقول: “كل سنة وأنتم طيبين يا حبايبي، وكل حد زعف وأنتم بخير وفرح.” اركن السيارة جانبًا وانزل لتشتري بعض عيدان السعف لأطفالك حتى يجدلوها، ثم يهدونها إلى أصحابهم المسيحيين، كما كنا نفعل في طفولتنا. إن كنت قد فعلت هذا بالأمس في “أحد الشعانين”، فأنت إنسان نقيٌّ نظيفُ القلب غير مُدنّس الروح. كل عام ومصرُ جميلة بأبنائها.

فاطمة ناعوت

World Opinions | Débats De Société, Questions, Opinions et Tribunes.. La Voix Des Sans-Voix | Alternative Média

تصفح ايضا

الشاب الذي هزم فرنسا… وطرد الفرنكفونية

ظلّ طيف من الأدباء والمثقفين العرب يتغنّى طوال حياته بانتمائه للثقافة الفرنكفونية. أعرف روائيًا مصريًا لم يكمل تعليمه الثانوي بقي يردّد حتى مماته أنه ابن الثقافة الفرنكفونية البار، رغم أنه لا يستطيع أن يتحدّث جملتين باللغة الفرنسية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Solve : *
32 ⁄ 4 =