ليس هذا وقت تغيير المواقف في تونس

الوقت الآن ليس وقت تغيير المواقف فتونس تحتاج إلى تحالفات ظرفية من أجل منع عودة المنظومة القديمة بشروطها وإعادة البلاد إلى الفوضى والفساد وغلبة المصالح الحزبية على الاهتمام بقضايا الناس.

أثار تزامن حملة التصريحات القوية لرئيسة حزب الدستوري الحر عبير موسي ضد الرئيس التونسي قيس سعيد مع تراجع حركة الشعب عن دعم مسار الخامس والعشرين من يوليو تساؤلات بشأن أجندات الأحزاب والنقابات التي ساندت الإجراءات الاستثنائية بقوة حين أعلن سعيد عن تجميد البرلمان ورفع الحصانة عن النواب وحل حكومة كان حزامها السياسي قبل خصومها من يعلن صباح مساء أنها لا تصلح.

ما الذي تغير بالنسبة إلى الدستوري الحر وحركة الشعب وقبلهما التيار الديمقراطي خاصة أن إجراءات سعيد كانت تعبيرا عن السقف الذي كانوا يطالبون به في مواجهة فوضى البرلمان والعنف اللفظي والبدني الذي شهدته جلسات كثيرة وطال بعضا من نوابهم.

يعرف هؤلاء أن ذلك كان عرضا أول لما هو قادم لهم ولغيرهم، فما الذي تغير بعد أربعة أشهر من الإجراءات الاستثنائية.

من الواضح أن الخلاف ليس على التغيير الذي جرى، ولا على أداء الرئيس في تنفيذ جزء لافت من الشعارات التي كان يرفعها قياديون كانوا يقولون إن أحزابهم هي الحزام السياسي للرئيس سعيد، وبعضهم يطلق على حزبه صفحة “حزب الرئيس”.

سعيد نفذ ما كانوا يطالبون به صباح مساء من إسقاط “منظومة الإخوان” و”حكومة الغنوشي”، كما حل برلمانا كانوا يحصلون فيه على دور ثانوي سواء في ضبط التحالفات أو تمرير القوانين، وفتح حربا متعددة الأشكال على الفساد بالمضمون الذي طالبوا به، أي تفكيك نفوذ حركة النهضة والبحث في ملفاتها وملفات حلفائها والشخصيات التي قبلت اللعبة تحت مظلتها.

فماذا يريدون أكثر؟

كان من الواضح أن الاستدارة في مواقف الأحزاب التي دعمت الخامس والعشرين من يوليو لا تتعلق بالمحتوى وبأداء سعيد في تنفيذ جزء لافت من وعوده، ولكن بشخصية سعيد نفسه التي ترى أن دعم مسار الإجراءات الاستثنائية لا يعني أن يكون هذا الحزب أو ذلك جزءا من السلطة ويحصل على حصته في قيادة هذه الوزارة أو تلك، ويتمتع بمزايا دور الشريك ولو من وراء الستار، حيث كانت الوظائف العليا تقسم بين الأحزاب والنقابات على حسب درجة الولاء ودرجة الصمت.

ليس هناك شك في أن البعض كان يتوقع أن إسناد سعيد بقليل من التصريحات وإظهار “حماسه” للتغيير الذي جرى سيجعله يحظى بحظوة خاصة وأن الرئيس لن يجد أفضل منهم ليكونوا حزبه ومستشاريه والذين يفكرون له. كانوا يعتقدون أن الرئيس شخص غير مسنود ولا يمتلك شبكة علاقات وطارئ على المشهد السياسي، وأن إسناده في وقت الحاجة سيعطيهم الفرصة لإدارة الدولة باسمه وتحت مظلته ليمارسوا تمكينا شبيها بالتمكين الذي يقولون إن حركة النهضة قد خربت به المؤسسات واخترقتها ووظفتها لخدمة أجندتها.

لا شيء سيتغير سوى تبديل اليافطات بأن تذهب النهضة ويأتي هؤلاء معززين مكرمين تحت جناح شعبية الرئيس سعيد ونظافته ليتسلموا قيادة المؤسسات على طبق من فضة. لكن سعيد فاجأهم بصورة أخرى مغايرة صدمتهم وأحبطت خططهم حتى أنه بات يتصرف دون الالتفات إليهم أو طلب مشورتهم، ولا احتاج لنصائحهم وأفكارهم وخبراتهم وشبكة علاقاتهم التي هي في الأخير ليست أكثر من أمنيات تم تسويقها لخداعه وجره ليعود كما كانت تخطط له حركة النهضة مجرد واجهة لتنفيذ أجندات الأحزاب التي تعتقد أنها تمتلك الخبرة وأنها الفرقة الناجية، وهي أولى بالحكم من رجل ضعيف جاء من عامة الشعب ويريد أن يفعل ما بدا له.

قادتهم الصدمة في اكتشاف رجل قوي إلى تغيير المواقف بسرعة. فموسي مثلا التي كانت تقول إنها من وفرت المناخ الملائم لسعيد من أجل حل البرلمان و”تفكيك منظومة الإخوان” باتت الآن تطلق خطابا قويا شبيها بخطاب حركة النهضة ضد سعيد.

وفي آخر حوار لها مع إذاعة موزاييك المحلية رفعت موسي من سقف خطابها ضد الرئيس سعيد بأن وصفته بأنه “رئيس السلطة القائمة”، وأنه يبحث عن “البيعة” من خلال الاستفتاء.

ولم تخف رئيسة الدستوري الحر في كلامها عقلية الاستعلاء الحزبي التي توهم أن الحزب يمتلك رؤية ومنهجا فيما يغيب ذلك عن الرئيس الفرد الذي لا خلفية حزبية له حين قالت إن “رئيس السلطة القائمة في حالة تناقض كبرى وقد نصحناه من خلال نقاطنا التنويرية طيلة شهرين وجهزنا له خارطة طريق لحفظ الأمن القومي”.

السعي لإظهار التمايز عن مسار الرئيس وانتقاد أدائه والمزايدة في موضوع تفكيك منظومة الإخوان قد يكون حملة سابقة لأوانها تحسبا لانتخابات مبكرة خاصة أن حزبها يضع استطلاعات الرأي في المرتبة الأولى، ويمكن أن يصبح كتلة محورية خاصة في ظل الظروف الصعبة التي تعيشها حركة النهضة، وفي غياب تشكيل حزب داعم للرئيس، ونأي سعيد بنفسه عن التحالف مع أي من الأحزاب.

وإذا كانت موسي واضحة في القطيعة مع سعيد وتربط عودة الدعم بتنفيذ شروطها، فإن حركة الشعب ذات الخلفية الناصرية ما تزال في وضع المنزلة بين المنزلتين، فهي مع الرئيس، لكنها ترسل بإشارات ناقدة له على لسان بعض نوابها في البرلمان مثل أمينها العام زهير المغزاوي وهيكل المكي وسالم الأبيض.

مشكلة حركة الشعب غير مشكلة موسي، فهي لا تريد أن تتراجع عن دعم الرئيس الذي ربطت مصيرها بمصيره بأن دعمت إجراءاته وغالت في تبريرها وتقديم نفسها “حزب الرئيس” والناطق باسمه. ويمكن أن تقود القطيعة معه إلى أزمة عميقة داخلها، فضلا عن تأثيراتها السلبية على شعبيتها وحظوظها في انتخابات كانت تريد أن تدخلها تحت جبة الرئيس.

السؤال المهم الآن: إلى أين سيقود هذا المسار، وهل أن النأي بالنفس عن مسار سعيد سيخدم هؤلاء أم سيكون ورقة ضدهم في أذهان الناس؟ ذلك أن جزءا من خطابهم كان على نقد الأحزاب وانتهازيتها وتركيزها على أجنداتها الخاصة مقابل إغفال المعركة الحقيقية التي يريدها الشعب، معركة إنقاذ البلاد والبحث عن حلول للأزمات ومواجهة الفساد السياسي الواسع الذي ضرب البلاد ويهدد مستقبلها.

كان يمكن أن يأتي خطاب النقد الموجه لسعيد وأدائه وبهذه الحدة خلال الحملات الانتخابية، أما الآن، فهو يعني تقديم خدمة سياسية لحركة النهضة وخصومها من خلال ترك سعيد وحيدا في المواجهة.

إن الوقت الآن ليس وقت تغيير المواقف ولا الأجندات الشخصية والحزبية، فتونس تحتاج إلى تحالفات ظرفية من أجل منع عودة المنظومة القديمة بشروطها وإعادة البلاد إلى الفوضى والفساد وغلبة المصالح الحزبية على الاهتمام بقضايا الناس.

وإذا كان الرئيس لا تعنيه أبقي هذا الحزب في صفه أو غادر، فإن ذاكرة الناس ستذهب آليا إلى وسم ما يجري بأنه تحالف موضوعي مع النهضة، وسيقود هذا إلى تعميم الحكم على الأحزاب كلها بكونها انتهازية وباحثة عن مصالحها، وأن معركة مواجهة الفساد ليست معركتها.

ربما يكون سعيد وحيدا ولا يقدر بمفرده على حل كل المشكلات، لكنه في نظر الناس مستمر بتنفيذ وعوده في ما يتعلق بمصالحهم، وخاصة المعركة مع الاحتكار، وهو ما جدد التأكيد عليه الأربعاء في لقائه مع وزيرة التّجارة وتنمية الصادرات فضيلة الرابحي.

وقال قيس إن “العديد من السّلع اختفت من الأسواق فجأة، بينها مواد غذائية وبمجال البناء والصّحة، وهي موجودة في مخازن المجرمين الذين يختلقون الأزمات لإدارتها”، داعيا إلى “تطبيق القانون تطبيقا صارما مع هؤلاء (لم يحددهم)، وهناك من القوانين ما يسمح بتسعير المواد، ولا مجال لترك المواد الأساسية موضوعا للمضاربة والاحتكار”.

مختار الدبابي – كاتب وصحافي تونسي / العرب

World Opinions | Débats De Société, Questions, Opinions et Tribunes.. La Voix Des Sans-Voix | Alternative Média

تصفح ايضا

الانتخابات المحلية التونسية أو لزوم ما لا يلزم

الانتخابات المحلية التي شهدتها تونس 24 ديسمبر/ كانون الأول الجاري هي المحطّة الانتخابية الرابعة بعد استفراد الرئيس قيس سعيّد بالحكم يوم 25 يوليو/ تموز 2021، فقد سبقتها الاستشارة الشعبية الإلكترونية والاستفتاء على الدستور يوم 25 يوليو/ تموز 2022 والانتخابات البرلمانية في دورتين يوم 17 ديسمبر/ كانون الأول من السنة نفسها و29 يناير/ كانون الثاني 2023.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Solve : *
21 − 6 =