هل يحق للسوسيولوجي أن يكتب تأملاته، تحت وقع حالة الطوارئ الحالية؟ وهل من حقه أن يجيب عن أسئلة لم يتم بناؤها بقواعدها المنهجية المتعارف عليها وبالصرامة التي يصر عليها أهل الجماعة العلمية؟ وهل من الضروري أن نتحدث، فقط، كما الفزيائي الكلاسيكي أو العالم الاقتصادي المحاسباتي؟ أو حتى عالم اللسانيات البنيوي؟
هل يحق للسوسيولوجي أن يكتب تأملاته، تحت وقع حالة الطوارئ الحالية؟ وهل من حقه أن يجيب عن أسئلة لم يتم بناؤها بقواعدها المنهجية المتعارف عليها وبالصرامة التي يصر عليها أهل الجماعة العلمية؟ وهل من الضروري أن نتحدث، فقط، كما الفزيائي الكلاسيكي أو العالم الاقتصادي المحاسباتي؟ أو حتى عالم اللسانيات البنيوي؟ أم أن السوسيولوجي في النهاية ومن خلال البرتوكولات المنهجية والصرامة العلمية، لا يبغي سوى فهم الواقع من أجل الارتفاع عنه في لحظة من اللحظات، لتقديم النتائج على شكل أفكار تبقى أهميتها نابعة من قدرتها على التحول إلى ممارسات قادرة على تقديم الحلول؟ يطول المقام للإجابة عن هذه الأسئلة التي لا يستقيم تداولها الآن. لكنها حاضرة وبقوة في كل “لحظة” يريد فيها السوسيولوجي التدوال في قضية ما. ليس المجال هنا للإجابة عن هذه التساؤلات، لكن طرحها “الاحترازي” مهم في هذا الظرف بالذات حيث تقف العلوم الطبيعية منها والإنسانية أمام تحديات واقع جديد. ترتبط هذه التحديات بتعايشنا مع كوفيد 19، ومع صدماته حيث شكك من شكك، وتنافس من تنافس في إيجاد الحلول والبدائل، وتضاربت المرجعيات السياسية والاقتصادية والإيبيدمولوجية لفرض شرعيتها وأفضليتها لمواجهة الوباء. وبقدر التضارب الحاد والتنافس الشرس بين الفاعلين على المستوى الدولي والمحلي، بقدر قوة وراهنية التحديات المفروضة على الجسم السوسيولوجي المغربي وكيفية تموقعه ضمن خارطة المساهمة في الكشف والتحليل، والمساهمة في النقاش واقتراح البدائل العقلانية. في هذه المحاولة، المتراوحة بين الملاحظات الشخصية ومعطيات ميدانية مستمدة من بحثنا داخل مؤسسة منصات حول تمثلات، مواقف، وممارسات المغاربة في زمن كوفيد، نحاول الإجابة عن عدد من الأسئلة المرتبطة بالبناء الاجتماعي لخطورة كوفيد، ولماذا تتعثر إجراءات فرض احترام الاجراءات الاحترازية، وهل لذلك علاقة بتمثلات المغاربة للمرض ولعلاقاتهم بالمؤسسات؟ وما سبب عدم قدرة تخصصات العلوم الإنسانية على فرض صوتها أمام “تغول” المقاربة التقنوية والإيبيدمولوجية أيضا؟
كوفيد 19: الخطر كبناء اجتماعي
فيروس كورونا أرعب العالم، وشل الاقتصاد، والسياحة، وأقفلت البلدان حدودها ومطاراتها، وفرضت الحكومات إجراءات الحجر الصحي ليس لخطورته ولكن للصورة التي تم بناؤها له إعلاميا واجتماعيا. كورونا مرعب لأن هذا الفيروس ترافق وإجراءات كثيرة اتخذتها العديد من الحكومات تحسبا لهذا الخطر، ومحاولة التقليل منه أو التحكم في خسائره. وهنا لابد من الإشارة إلى أن العلوم الاجتماعية أثبتت أن المخاطر جزء من البناء الاجتماعي. وإذا صدقنا الفيلسوف “فرونسوا إيوالد” فإن الديناميكية الأساسية التي ميزت القرن العشرين هي ديناميكية مبنية على الخطر حيث لا ينفصل خلق الثروة حسب “دوبيك” عن خلق المخاطر. إن تحويل العالم إلى عالم من المخاطر التي يبنى على أساسها الثراء ترافق أيضا مع ارتفاع مواز لضرورة صناعة مجتمعات تعلي من قيمة التامين. لكن المخاطر ليست “خطيرة” في ذاتها وإنما من خلال المعنى الذي يعطيه لها الفاعل. ولو أخذنا نماذج من التاريخ الإيبيديمولوجي للعالم لاكتشفنا أن الأنفلونزا الإسبانية التي ذهب ضحيتها ما بين عشرين وخمسين مليون شخص لم تكن خطرا آنذاك لأن لا أحد تنبأ بها وبالخسائر التي يمكن ان تحدثها. وبالعودة إلى التاريخ، سنكتشف أن مفهوم الخطر هو بناء اجتماعي وهنا يقدم الدارسون نموذجا مهما وهو التأمين البحري. ويؤشر ظهور التامين البحري على الانتقال من اعتبار غرق سفينة أمرا مقدرا ومكتوبا إلى خطر يمكن التحكم في نتائجه. وهكذا فلا يصير خطر ما خطرا، إلا عندما يتم الوعي بخطورته وانبثاق إرادة تسعى إلى التحكم فيه عبر مجموعة من الإجراءات الاحترازية. بل يمكن لهذا الخطر أن يكون غير مؤسس ولا أساس له من الصحة، بل وهميا حتى. وهنا لا بد من تقديم العديد من الأمثلة خاصة من الدراسة الشهيرة لماكس فيبر حول الدين البروتستاني حيث أن خوف البروتستان الشديد أمام عدم وضوح المصير في الآخرة جعلهم يسعون جاهدين إلى تجاوز هذا الخطر عبر تبني عدد من القيم التي افرزت في النهاية الرأسمالية حسب شرح فيبر. في المجتمعات الحديثة صارت المخاطر حديث الخاص والعام تحت وقع مسلسل التحديث. ولم تعد المخاطر نتاج صدف أو كوارث طبيعية، بل صارت هي نفسها نتيجة قرارات سوسيوسياسية. لذلك كل الجهد الذي تم بذله من خلال القوانين التي تم سنها هو جهد للتحكم في المخاطر بناء على نسبة تكرار الحوادث بهدف محاولة التنبؤ بها. خطورة كوفيد 19قائمة وأكيدة لكن المعنى الذي يعطى للخطر هو معنى معولم وقوي بفعل تدفق المعلومات السريع والخوف المعولم الناتج عن ذلك.
الإجراءات الاحترازية: هل نتفهم ثقافة المخاطرة؟
تذكرنا أزمة كوفيد بهذه الديناميكية التي تحدثت عنها سابقا والتي ميزت القرن العشرين والحداثة بصفة عامة، وهي شيوع ثقافة المخاطرة. وتبعا لقيم المخاطرة والتي تعني فيما تعنيه القدرة على اتخاذ القرار بشكل إرادي وفردي وتحمل المسؤولية في ذلك، صارت قراراتنا في الوقت الحالي تحمل سمة المغامرة. ولعل القيمة الأكثر جذبا للشباب عبر العالم هي المغامرة. فمن خلال الدراسة التي أنجزناها حول شباب الدار البيضاء، يتم الإعلاء من الحرية، الاستقلالية، الرغبة في اتخاذ القرارات بعيدا عن الوصاية. هذه القيم حيث انبثاق الفرد الحر، المتحمل لمسؤوليته هي في العمق قيم رافقت انبثاق الإيديولوجية التي انبنت عليها الحداثة الغربية لتصير قيما كونية. وإذا لاحظتم معي، فسواء خلال الإشهارات أو في الأفلام أو المضمون الذي يروج بكثرة على الشبكات الاجتماعية، هناك حضور مكثف لهذا الرغبة الجامحة في امتلاك الإنسان لمصيره ومحاولة أن يصير رياديا وقياديا لذاته. وهذا أيضا ما يمكن لمسه في هذا التصاعد المتواتر لأهمية ما يسمى بالخبراء سواء في التغذية، في ما يسمى بالتنمية الذاتية والكوتشينغ، في نمط الحياة والاهتمام بالجسد. وهوما يجعل الناس متعطشة إلى معارف وأشخاص يساعدونهم على التوفر على معلومات رقمية ومعطيات كمية. إذا أخذنا نسب الزيجات التي تنفصل في الدار البيضاء خلال الستة أشهر الأولى، وبغض النظر عن الأسباب، يصبح الإقدام على هذه الخطوة مغامرة بفعل ارتفاع معدل إمكانية الفشل. وهنا تحضرني العديد من الإجابات التي قدمها الشباب، في إطار بحث ميداني حول الطلاق، حينما سألناهم عن تعريفهم للزواج حيث تتردد كثيرا هذه العبارة: الزواج في هذا الزمان انتحار ومع ذلك سأقدم عليه لا بد من تجريبه فرديا، ولا تهمني تجارب الآخرين. بالرغم من أنهم يعرفون بشكل شبه مؤكد نهاية التجربة، لكنهم يصرون على تجربتها كمسؤولية فردية يتحملها الفرد وحده على خلاف أشكال التضامن السابقة والتقليدية التي كانت تراعي خلال الزواج روابط الدم، القبيلة، العار، الشرف وغيرها. جزء من الإجابة عن سؤال عدم المبالاة بالإجراءات الاحترازية، توجد في أن تجربة كوفيد على المستوى الاجتماعي تبرز أن قيم المغامرة لها الكلمة العليا. لكن لا يجب أن ننسى أن الهشاشة، الفقر، وكذلك ذاكرة الألم التي شكلتها تجربة الحجر الصحي، الذي لم يعد ممكنا تطبيقه في الوقت الحالي لفشله أولا في احتواء المشكل، ولأضراره الكبرى على كافة المستويات، النفسية، الاقتصادية، والاجتماعية، هذه التجربة الأليمة تفسر غضب الناس، بل ثورتهم في بعض الحالات على الإجراءات التي تتخذها السلطات كما وقع للحاجز القضائي الذي اقتحمه المواطنون ليلة الإعلان عن منع التنقل بين المدن قبيل العيد.
تمثلات المغاربة لكوفيد : مخاطر المخاطر
خلال البحث الذي أجريناها في مؤسسة منصات من خلال استجواب عينة تصل إلى أكثر من ألفي مستجوب، كان مستوى الثقة في المؤسسات عاليا وعبر أكثر من 80% من المستجوبين عن درجة رضا عالية عن الإجراءات المتخذة. كان ذلك في المرحلة الأولى من البحث والتي تزامنت وفترة الحجر الصحي الأولى، لا أدري أين ستكون وصلت هذه النسبة. لكن بالنسبة لي، ما يميز الأزمات وخاصة الصحية هي الدرجة العالية من اللايقين. هذا اللايقين يمس درجة التهديد ودرجة الخطورة. المشكل أن صناع القرار حينما يتخذون الإجراءات التدبيرية، يعتبرون ان الناس سيكون متعاونين، ما يهمنا في هذا السياق هو العامل البشري. إن اللايقين اتجاه درجة تعاون الناس مع السلطات العمومية لا يزال كبيرا. وهكذا فالمخطط التي يرسمه صانع القرار ينطلق من مسلمة يفترض بموجبها ان الناس متعاونة ومتفهمة. غير أن رد فعل الناس ليس دائما هو المتوقع. الأبحاث التي أجريت في عدد من البلدان قبل كورونا تثبت أن رد فعل الناس تجاه قرارات السلطات أثناء إدارة الازمات غالبا ما تتسم بالشك. وفي المغرب، لا زال الشك حتى في أصل الفيروس مسيطرا بدرجة او بأخرى، وهنا نعطي دائما مثالا من بحث مؤسسة منصات في موجته الأولى والذي يثبت أن أكثر من ثلثي العينة اعتبروا الفيروس صناعة مختبرية مع ما يترتب عن ذلك من تبعات على مستوى السلوك الممارس. هذا لا ينطبق فقط على المغرب، ففي فرنسا مثلا وحينما بدأ انتشار فيروس H1N1 فوجئت السلطات الصحية بان الفرنسيين لم يتعبأوا لإجراء التلقيح، وفقط 8% من الفرنسيين من قاموا بالتلقيح. وما يزيد من صعوبة الموقف وتدبير السلطات العمومية لأزمة كورونا هو ذاكرة الألم التي رافقت الحجر الصحي والصرامة التي التزم بها المغاربة بهذا الإجراء في البداية، وإذا كنا نتفهم الإجراء فإن انعكاساته كانت كارثية على تعاملات الناس في الوقت الحالي مع إجراءات السلطات خاصة في جانب تبعات ذلك على المستوى الاقتصادي والاجتماعي والنفسي. الآباء الآن لديهم تجربة مع الحجر الصحي، مع التعليم عن بعد ونتائجه غير المرضية، لذلك فأعتقد أن مستوى الثقة في المؤسسات ستتأثر بكيفية إدارة الأزمة التي لا يمكن بحال من الأحوال تدبيرها بمعزل عن الشفافية مع الناس وخطة إعلامية لا تقوم على الترهيب والتخويف بل على المسؤولية وهو شيء لا يمكن أن يحصل بين ليلة وضحاها.
خطورة الفيروس وخطورة الإجراءات
تتجه العديد من الآراء إلى اعتبار عدم التزام الناس بالإجراءات الاحترازية سلوكا لا عقلانيا. هذا غير صحيح في جزء كبير منه. الآن، وفي الوقت الذي أعلنت فيه وزارة التربية الوطنية عن تعليق الدراسة والاكتفاء بالدراسة عن بعد خلال الخمسة عشر يوما، الناس اعتبرت أن هناك مخاطر فوق المخاطر، فبالإضافة على مخاطر كوفيد هناك من يعتبر ان تبعات الدراسة عن بعد على الطلبة والتلاميذ قد تفوق خطورة الفيروس نفسه. ومشكل تمثل مخاطر أكبر من الخطر الأساسي يعتبر في حد ذاته مشكلة لتدبير الازمة. فالاحتياط من خطر معين قد ينتج عنه ويفرز مخاطر من نوع اخر قد تكون أكثر إيذاء من المشكل الأصلي. ويمكن أن نعطي نموذجا للفيديوهات المنتشرة حاليا على الشبكات الاجتماعية والتي تحذر من استعمال أي تلقيح مستقبلي على اعتبار أن هذه التلقيحات تشكل خطرا مضاعفا، وآثارها الجانبية غير معروفة أو قاتلة هي نفسها. في ألمانيا، في بريطانيا وفي الولايات المتحدة الأمريكية هناك حملات تشكيك كبيرة بخصوص هذا الأمر. بعض الآباء في عدد من البلدان الأوروبية، يرفضون حتى تلقيح أبنائهم بحجة خطورة حتى التلقيحات التقليدية المتعارف عليها فما بالك بلقاح كورونا الذي يثير حوله كل هذا اللغط. التمثلات التي يحملها الناس حول المرض وحيثياته لا تزال مجهولة واحتمال ظهور أعراض جانبية بخصوص كل القرارات المتخذة لتدبير الوباء تزيد من صعوبة الموقف ومن صعوبة التعاطي السليم مع الأزمة. وتحميل المسؤولية للناس لاتخاذ القرارات التي تناسبهم مثلا في التعليم، في الحماية، في تناول الدواء قد يبدو إجراء مفهوما لكن وراء ذلك هناك خطر إعادة النظر في شرعية المؤسسات التي لابد أن فشلها في تدبير الازمة سيعيد إلى الواجهة شرعيتها بأكملها لأن شرعية كل سلطة، في جزء كبير منها، مستمدة من فاعلية مؤسساتها ومن مدى نجاعة المنتوج التدبيري الذي تقدمه للناس المتعاقدين معها، إذا افترضنا وجود هذا التعاقد طبعا.
كورونا وضريبة فرملة العلوم الإنسانية
بالرغم من كل المجهودات التي تقوم بها السلطات العمومية في التحسيس بخطورة المرض يبدو أن خللا ما يجعل هذه الخطابات غير مجدية مما ينعكس على ما نلاحظه من عدم التزام الناس بالإجراءات الاحترازية. هذه واحدة من الملاحظات التي تبدو متداولة هذه الأيام. لكن دعنا نعترف أن كورونا فرض تحديات كبيرة على المختصين في كل الميادين. صحيح فرض تحديات على علماء البيولوجيا، على مهنيي الصحة وعلى الاقتصاديين والسياسيين وغيرهم. لكن يبدو أن المقاربة الإيبيديمولوجية للأزمة هي المسيطرة. تقوم هذه المقاربة على تهميش أي دور للمحيط الاجتماعي وثقافة الأفراد وتمثلاتهم. وكلما سيطرت المقاربة الايبيديمولوجية كلما كان احتمال نجاح تدبير الازمة ضئيلا. من أهم أسباب قصور هذه المقاربة اتجاهها نحو النظر إلى السلوكات بنوع من الآلية البيولوجية بالرغم من أن هذه السلوكات تنضوي ضمن نسق ثقافي وقيمي. والعلاقة مع المرض كيف ما كان نوعه، لا يمكن ضبطها يمعزل عن المعنى الذي يعطيه الأفراد لذلك، ولا يمكن فهم هذه السلوكات بمعزل عن المعتقدات، الطقوس، التنشئة الاجتماعية. الإعلاء من المقاربة الإيبيديمولوجية، وتهميش السياق الاجتماعي، والمعنى والدلالات التي يعطيها الافراد والجماعات لسلوكاتهم يمكن أن يجعلنا نفهم كيف أن السلطات العمومية والفاعلين الأساسيين في السلطة ينظرون إلى سلوك الأفراد غير المبالي بالمرض وخطورته كسلوك غير معقول وغير عقلاني بالرغم ان هذا السلوك هو عقلاني ومبرر، بالنسبة للأفراد إذا إخذنا بعين الاعتبار الدلالات والمعاني التي يصبغونها على سلوكاتهم. وهنا يمكن للعلوم الإنسانية أن تقدم إضافتها. وهنا اعود لسؤالك ان وضعية العلوم الاجتماعية في المغرب وملابساتها لم تسمح بتحقيق هذا الفهم لاعتبارات لا يسمح المجال هنا للتطرق لمختلف حيثياتها. لكن يمكن القول أننا أمام هذه الوضعية، نؤدي ثمن عقود من فرملة العلوم الإنسانية.
المواطنة واجبات… وحقوق أيضا !
ما الذي يمكن أن قوله حول الخطاب الإعلامي المغربي في زمن الوباء؟ لو تأملنا في الخطاب الذي روجته القنوات المغربية الرسمية، فسنجد أنه خطاب انبنى على ضرورة تحمل الأفراد لمسؤولياتهم اتجاه صحتهم، واتجاه المخاطر التي تحيق بهم. الوصلات التحسيسية كلها مبنية على محاولة التحكم في الناس ليس بشكل مباشر ولكن من خلال التحول إلى نوع من الرقابة الذاتية. لا يمكن هنا أن نغفل أعمال ميشيل فوكو حول كيف يتم استدخال السلطة في الجسد من خلال مقولته الشهيرة توجد السلطة في كل مكان ولا توجد في أي مكان. إن الخطاب الذي بلوره الإعلام سواء العمومي أو الخاص هو خطاب اتجه إلى تحميل الأفراد مسؤولية تعريض أنفسهم للخطر. وهكذا فالأساسي تمثل في محاولة إقناع الناس بضرورة تغيير سلوكهم لما فيه مصلحتهم. هذا شيء يمكن أن نفهمه في سياق الدرجة العالية من مجهولية الفيروس وعدم قدرة حتى منظمة الصحة العالمية والأنظمة الطبية المتقدمة على التوفر على معطيات واضحة بشأنه. هذا التوجه نحو تحميل المسؤولية للأفراد لا ينطبق فقط على أزمة كوفيد الحالية بل حتى على الوصلات التي ترافق الدعوة إلى احترام البيئة، دائما الأساسي هو أن البيئة واحترامها رهينة بعدم تلويثها من طرف الأفراد. ويبقى فقط على الدولة أن توفر المعطيات والخبرات التي ينتجها خبراؤها لدفع الناس إلى تغيير نمط السلوك. هذا التوجه لا يخص المغرب فقط بل هو توجه عالمي مبني على عدد من المرتكزات التي تعني ما تعنيه. وحول تداعيات ذلك على سلوك الناس، لا بد أن نؤكد أن المواطنة سلوك لا يمكن اكتسابه بخطاب تقريري يمكن أن نصفه أيضا بالتخويفي والسلطوي. لا يمكن أن نطلب من الناس أن يكونوا مسؤولين حينما يتعلق الأمر بالالتزام بالواجبات، الحقوق أيضا جزء أساسي من مفهوم المواطنة، والشخص الذي لا يستشعر حقوقه وكرامته في الصحة والتعليم، والأمن والتأمين وغيرها، لا يمكن أن نطالبه أن يتعلم السلوك المواطناتي والمسؤول في خمسة أيام وبدون معلم. وهنا لا نزال نحتاج إلى الكثير من العمل!
يتظاهر طلبة أميركا مطالبين بالحرية لفلسطين، ووقف ما يتعرض له الشعب الفلسطيني من إبادة جماعية واستلاب للحقوق منذ 76 عامًا وتتوسع مظاهراتهم إلى أوروبا وغيرها، ولا تجد لها صدى في بلدان وجامعات المَوات العربي. فإلى أي مدى تفيد تلك المظاهرات في الزمان والمكان في نصرة فلسطين، وتغيير السياسات الإمبريالية الأميركية المنحازة للكيان الصهيوني انحيازًا تامًا؟