انتهت مهلة الانتظار في تونس وأزفت ساعة الإصلاحات

معظم التونسيين يرون أن الحل لأزماتهم يبدأ من تونس وينتهي فيها، من ذلك بناء التوافقات التي من شأنها درء أيّ اضطرابات يمكن أن تثيرها الإجراءات المؤلمة المرتقبة.

لمدة عقود سعى الشباب العاطل عن العمل في تونس لتجاوز مرحلة الانتظار التي بقي فيها عالقا لا يستطيع أن يبدأ حياته. مثله في ذلك مثل الكثيرين من شباب المنطقة الباحث عن الشغل لمدة سنوات دون جدوى. وضع هؤلاء الشباب التونسيين العالقين يعكس في الواقع أوضاع بلادهم الصعبة وهي تبحث لها عن مخرج من النفق الاجتماعي والاقتصادي الذي تردت فيه.

فبالرغم من وعود الساسة بخلق مواطن الشغل وإصلاح التوازنات التنموية في البلاد، بعد الإطاحة بنظام زين العابدين بن علي في يناير 2011، فإن بطالة الشباب بقيت تراوح مكانها إن لم تكن تفاقمت. وتبلغ اليوم نسبة بطالة خريجي الجامعات ما لا يقل عن 30 في المئة، بعد أن أدى تباطؤ نسق النمو الاقتصادي خلال العقد الماضي إلى حد جعل السلطات غير قادرة على تشغيل أصحاب الشهادات الجامعية أو غيرهم في الوظائف الحكومية. ونتيجة لغياب الإصلاحات، شمل الركود الاقتصادي القطاع الخاص أيضا.

الشعبوية سيطرت على قرارات الساسة أكثر من اعتبارات الموازنة، مما انجر عنه ارتفاع ضخم للدين العمومي أرهق كاهل الدولة

ويحاول صندوق النقد الدولي وغيره من المانحين اليوم الضغط على تونس من أجل إدخال إصلاحات عميقة تتضمن التخفيض من نسبة الموازنة المخصصة لرواتب الموظفين الحكوميين، وهي نسبة تعد من أعلى النسب في العالم. ويبلغ عدد الموظفين في الإدارات العمومية حوالي 650 ألف موظف يضاف إليهم قرابة 150 ألفا يشتغلون في الشركات المملوكة من الدولة، في بلاد لا يبلغ عدد سكانها 12 مليون نسمة. وبالرغم من كلام المسؤولين من الطرفين عن حصول “تقدم” بعد الجولة الأولى من المفاوضات بين الحكومة وصندوق النقد الدولي فإن الأشهر القادمة لن تكون سهلة بأيّ مقاييس بالنسبة إلى تونس.

فتداعيات الأزمة الأوكرانية، بما في ذلك ارتفاع أسعار النفط وكلفة الواردات من الحبوب سوف تفاقم المصاعب الاقتصادية. في الأثناء وفي طريق التفاوض مع صندوق النقد الدولي حول قرض بقيمة حوالي 4 بليون دولار تحتاج رئيسة الحكومة نجلاء بودن إلى ترتيب رزمة من الإصلاحات توفق بين مطالب الصندوق وضرورة اجتناب أيّ اضطرابات اجتماعية قد تنتج عنها. وقد تتضمن الإجراءات المزمع اتخاذها حسبما تسرّب من أخبار تقليص وتوجيه تدخل الدولة في مجال التعويض عن الأسعار والاستغناء عن أعداد من الموظفين الحكوميين بطريقة أو بأخرى.

وقد ورثت النخبة الحاكمة اليوم عمّن سبقوها الانعكاسات المترتبة عن التطلعات غير الواقعية التي خلقتها وعود الحكومات المتلاحقة. وفي فترة ما كان الرئيس الراحل الباجي قايد السبسي يعتقد أن تونس، باعتبار ريادتها لانتفاضات الربيع العربي سنة 2011، كانت تستحق الحصول على مساعدة في حجم خطة مارشال (التي انتفعت بها أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية)، لكن شيئا من ذلك لم يتحقق.

أطراف خارجية تأمل في أن يستغل سعيد الشعبية التي يحظى بها للدفاع عن الإصلاحات. لكن يبدو أنه يركز بشكل أكبر على الاستفتاء

ويتذكر الجميع في تونس كيف أن بعض الحكومات التي تولت السلطة في العشرية الماضية وعدت بكل بساطة بمراجعة المنوال الاقتصادي والاجتماعي للبلاد. ولكنها عوضا عن ذلك استعملت القروض الخارجية لتسديد رواتب الموظفين ودفع التعويضات عن الأسعار و دعم الشركات المملوكة من الدولة والمتعثرة ماليا وليس لإصلاح الاقتصاد. خلاصة الأمر أن الشعبوية سيطرت على قرارات الساسة أكثر من اعتبارات الموازنة، مما انجر عنه ارتفاع ضخم للدين العمومي أرهق كاهل الدولة.

وقد يكون أفضل مثال عن الطاقات المهدورة للبلاد هو هجرة الآلاف من كوادرها وكفاءاتها كل سنة إلى أوروبا وبلدان الخليج العربي، فيما يحاول آلاف آخرون المغادرة بطريقة غير قانونية عبر البحر.

ومن المفهوم أن تثير الإصلاحات المحتملة مخاوف لدى الكثير من القطاعات. أول أسباب ذلك هو أن تدخل الدولة في مختلف المجالات الاجتماعية والاقتصادية على مدى عقود خلق تقاليد يصعب تغييرها أو تعويضها. والاعتبار الآخر هو التوجس من الارتدادات الاجتماعية للإصلاحات الاقتصادية. وقد أكد بعدُ الرئيس قيس سعيد أن تحميل الفقراء ضريبة الإجراءات التقشفية “خط أحمر” لن يسمح بتجاوزه. والمانحون الأجانب أنفسهم واعون بأن البلاد تقف على أرضية هشة اعتبارا لأن العاطلين عن العمل والطبقات الفقيرة، التي أضحت تضم أعدادا ممن كانوا ينتمون سابقا للطبقة الوسطى، غير مستعدين لتحمل كلفة الإصلاحات.

ولن يكون من اليسير على الحكومة التوصل إلى توافقات حول الإجراءات التقشفية مع الاتحاد العام التونسي للشغل. وهذه المنظمة العريقة وواسعة التأثير عقدت الشهر الماضي مؤتمرها العام الذي جددت فيه الثقة في أمينها العام نورالدين الطبوبي. ومن المؤكد أن الاتحاد سوف يدافع عن حقوقه المكتسبة على مدى السنين ويحاول تجنيب منظوريه وطأة الإصلاحات الاقتصادية. ولا تدري قيادة المنظمة الشغيلة ذاتها إلى أيّ حد سيقبل أعضاؤها بالتضحيات التي قد تطلب منهم في إطار الاتفاق مع صندوق النقد الدولي، ولكنها أعربت عن معارضتها للمس بالتعويضات عن الأسعار أو أيّ قرار يعني تخلي السلطات عن المؤسسات المملوكة من الدولة.

وتمثل الساحة السياسية في تشظيها الحالي تحديا إضافيا أمام السلطات. وليس من المستبعد اعتبارا لتصريحات الطبوبي الأخيرة أن يحاول اتحاد الشغل لعب دور نشط للتأثير في الحياة السياسية. فقد أكد عقب انتهاء مؤتمر منظمته النقابية أن وقت النزاعات السياسية “قد انتهى” وحان وقت “التنازلات”.

ولن يكون من السهل له أن يضع كلامه موضع التنفيذ. وسوف يكون من الصعب تكرار تجربة 2013 عندما استطاع اتحاد الشغل ضمن منظمات المجتمع المدني التي كانت منضوية آنذاك تحت لواء “الرباعي الوطني للحوار” إنقاذ البلاد لمّا كانت على شفا الحرب الأهلية بعد اغتيال الزعيمين السياسيين شكري بلعيد ومحمد البراهمي. وإن كلّلت مساعي الرباعي عندئذ بالنجاح ونالت تونس بفضلها جائزة نوبل للسلام فإن الثمار السياسية لذلك الجهد سرعان ما تبخرت في جو الصراعات المتجددة.

أفضل مثال عن الطاقات المهدورة للبلاد هو هجرة الآلاف من كوادرها وكفاءاتها كل سنة إلى أوروبا وبلدان الخليج، فيما يحاول آلاف آخرون المغادرة بطريقة غير قانونية عبر البحر.

أما على الساحة الخارجية فتأمل بعض الأطراف أن يستغل قيس سعيد الشعبية التي يحظى بها للدفاع عن الإصلاحات المؤلمة المزمع تنفيذها. ولكنه في الوقت الحالي يبدو أن رئيس الدولة يركز بشكل أكبر على إجراء الاستفتاء الشعبي والانتخابات البرلمانية السابقة لأوانها قبل شهر ديسمبر القادم مثلما أعلن عن ذلك. أما بخصوص الإصلاحات الاقتصادية فيبدو أن الأولوية بالنسبة إلى سعيد هي للإجراءات الاجتماعية التي من شأنها التخفيف من وطأة الإصلاحات الاقتصادية على الطبقات الشعبية، مثل الترفيع في الأسعار أو تجميد الرواتب والأجور في الوظائف الحكومية.

أما على صعيد العلاقات الدولية فقد أظهرت الدول الغربية تذبذبا في المواقف تجاه سعيد منذ إعلانه للإجراءات الاستثنائية التي حل بمقتضاها البرلمان وتولى تسيير البلاد اعتمادا على مراسيم رئاسية. ورغم الضغوطات من الخارج فإن سعيد لم يغير من مواقفه ولا يبدو أنه سيفعل ذلك في المستقبل المنظور. ومن المحتمل أن تبقى الدول الغربية في حالة انتظار تجاه ما قد تفرزه التطورات القادمة في البلاد، ومن المستبعد جدا أن تلجأ لتكثيف الضغط بواسطة التقليص من مساعدتها لتونس. فمثل ذلك الإجراء من شأنه المس من استقرار البلاد وتغذية المشاعر المعادية للغرب ممّا سوف يقوّي من موقع قيس سعيد على الصعيد الداخلي.

في الأثناء، يرى معظم التونسيين أن الحل لأزماتهم يبدأ من تونس وينتهي فيها، من ذلك بناء التوافقات التي من شأنها درء أيّ اضطرابات يمكن أن تثيرها الإجراءات المؤلمة المرتقبة، بعد أن بلغت كلفة بطالة الشباب وسوء التصرف الاقتصادي والخلافات السياسية حدا تجاوز طاقة البلاد على الاحتمال.. أو على الانتظار.

أسامة رمضاني – رئيس تحرير العرب ويكلي / العرب

World Opinions | Débats De Société, Questions, Opinions et Tribunes.. La Voix Des Sans-Voix | Alternative Média

تصفح ايضا

الانتخابات المحلية التونسية أو لزوم ما لا يلزم

الانتخابات المحلية التي شهدتها تونس 24 ديسمبر/ كانون الأول الجاري هي المحطّة الانتخابية الرابعة بعد استفراد الرئيس قيس سعيّد بالحكم يوم 25 يوليو/ تموز 2021، فقد سبقتها الاستشارة الشعبية الإلكترونية والاستفتاء على الدستور يوم 25 يوليو/ تموز 2022 والانتخابات البرلمانية في دورتين يوم 17 ديسمبر/ كانون الأول من السنة نفسها و29 يناير/ كانون الثاني 2023.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Solve : *
20 ⁄ 5 =