المغرب.. مأساة مصنع “طنجة” نموذج مصغر لمأساة أكبر و أعمق

الإشكاليات و الإختلالات الكبرى في المغرب لها صلة بفشل الإدارة السياسية و ضعف أداءها إلى جانب انحراف السياسات و تحيزها للأقلية بدل الانحياز للغالبية، هذا إلى جانب ضعف الشفافية و غياب المساءلة و المحاسبة، فالبلاد تعرف فسادا إداريا و ماليا فاحشا، إلى جانب سياسات توزيعية سيئة و تجعل ثمار النمو على ضعفه حكرا على القلة، كما أن ثروات البلاد تجد طريقها لحسابات وجيوب قلة من المسؤولين بدلا أن تكون أداة للتنمية..

قبل أيام قليلة كتبت مقالا بعنوان ” إلى السيد د. سعد الدين العثماني جانبت الصواب بخصوص اقتراب الاقتصاد المغربي من دخول قائمة 50 أفضل اقتصاد في العالم…” و حاولت من خلاله تبسيط واقع التنمية و النموذج التنموي المتبع في المغرب، و هدفي من ذلك ليس التعرض لشخص الرجل ، فأنا على المستوى الشخصي احترمه كما أحترم باقي الأفراد مهما على شأنهم أو انخفض ، و لكن ما يهمني هو صفته ووظيفته العمومية، فلا ينبغي بأي حال من الأحوال السقوط في الشخصنة، و هذا ما تعلمته على يد أستاذتي في الصحافة…

فلسنا من صنف الخبراء و المحليين و الأساتذة و هلم جرا من الأوصاف، الذين يحاولون تزييف الحقائق و تخدير القارئ أو المستمع خدمة لأجندة ما ، و في الغالب أجندة شخصية بغرض الحصول على بعض المكاسب أو المناصب عبر التملق للسلطة و أهلها…

فكلمة الحق ينبغي أن تقال بموضوعية ، نعم نحن ضد التجريح أو التسفيه ، و في هذا السياق يعجبني التقسيم الذي تبناه العالم و المفكر الجزائري “مالك بن نبي” رحمه الله عندما ميز بين عالم الأفكار و عالم الأشخاص و عالم الأشياء، فهناك من تحركه الأشياء و هناك من يحركه الأشخاص و صنف أخر تحركه الأفكار، بمعنى أنه يدافع عن فكرة و مبدأ بغض النظر عن حاملها…

و هذه المقدمة هي “رد جميل” على بعض الانتقادات التي توجه لي، خاصة عندما أتعرض إلى بعض السياسات الخاطئة سواءا في بلدي المغرب أو غيره من البلدان العربية، فلسنا من المفكرين أو المثقفين الذين يعيشون في عليائهم و في عالمهم الخاص الطوباوي، فكاتب المقال مارس التجارة و هو إبن 14 سنة و أصبح يدير فيما بعض مشاريع تشمل قطاعات الإعلام و الزراعة و العقار ، و ترقى و لله الحمد أكاديميا و مهنيا و دفع ثمن مواقفه السياسية و المبدئية من جيبه الخاص ، و لم تحركني يوما الرغبة في الحصول على منصب عمومي، فقد رفضتها أكثر من مرة لأني ببساطة في غنى عنها و هذا فضل من الله..

و للذين لم يعجبهم مقالي السالف الذكر و للنماذج التي سقتها ، أحيلهم إلى مثال حدث بالأمس فقط في مدينة طنجة ” شمال المملكة”، و هو مصرع 28 شخصا بعد غرق وحدة صناعية و يعتقد أن سبب الوفاة تعرض العمال للصعق الكهربائي بعد تسرب المياه إلى ألات كهربائية، و قد أعلنت السلطات المغربية يوم الاثنين 8 فبراير 2021 عن هذا الحادث، و قالت السلطات المحلية لولاية جهة طنجة تطوان الحسيمة ، “أن الوحدة الصناعية سرية للنسيج كائنة بمأرب تحت أرض بفيلا سكنية بحي الإناس بمنطة المرس بطنجة ، فيما لا تزال الحصيلة مؤقتة و مرشحة للإرتفاع…

و طنجة مدينة بشمال المملكة المغربية تحظى باهتمام واسع من قبل الحكومة المغربية و قطب أساسي في عملية التنمية “العرجاء” ، و في هذه المدينة الدولية ، تم بناء أكبر ميناء في إفريقيا ” الميناء المتوسطي” و من هذه المدينة ينطلق القطار السريع باتجاه مدينة الدار البيضاء، مدينة تثير الزائر المحلي و الأجنبي ببنيتها التحتية و بناياتها و شوارعها الجيدة في الظاهر ، لكن الغريب أن هذه المدينة كغيرها من المدن المغربية تعبر عن واقع التنمية في المغرب ، نموذج التنمية القائم على الواجهة و التسويق، فهناك أحياء و شوارع راقية مثل “كورنيش مارينا” و “أشقار” و شارع محمد الخامس و ” الجبل الكبير” و ساحة الأمم…

لكن و أنت تتوغل أكثر في دروب و شوارع هذه المدينة تكتشف عالما أخر مثل ” حومة الشوك” و “حومة صدام” و ” سوق المصلى” و “مسانة ” و هي أحياء شعبية بامتياز ، فالزائر ينتقل من عالمين مغايرين عالم الغنى الفاحش و عالم الفقر المدقع…مع العلم أن أغلب المدن الكبرى تعاني من هذه الإشكالية فمدينة بحجم “بكين” و “كوالامبور” تجد فيها مثل هذه التناقضات لكن ليس بنفس الدرجة …

و هذا التناقض يطال بنية الاقتصاد المغربي أيضا فهناك اقتصاد مهيكل و هناك إقتصاد غير مهيكل، و المسؤول عن هذه التناقضات السلطات العمومية على المستوى المركزي و على المستوى المحلي، فلجوء البعض إلى الاشتغال في الخفاء راجع إلى عدة أسباب و لعل أهمها تعقيد المساطر الإدارية و تعددها و تعنت الإدارة المحلية و أيضا الغلو في الضرائب و الرسوم المختلفة…

و أيضا إرتفاع كلفة الأراضي و المحلات المعدة للأنشطة الصناعية و التجارية…فالحصول على قطعة أرض في المنطقة الصناعية للطنجة يتطلب ملايين الدراهم و جهود مضنية ، في حين أن مثل هذه الأراضي تمنح لمستثمرين أجانب أو محليين من أصحاب السلطة و النفوذ بتخفيضات و تسهيلات مهولة…

و أذكر شخصيا أني بحث طيلة مدة أشهر عن بقعة أرضية في المنطقة الحرة الصناعية لطنجة سنة 2015 بغرض التأسيس لمطبعة تعاقدت مع شركة هندية بغرض تصنيعها ، و المشكل هو كلفة الأرض المرتفعة و الإجراءات الإدارية المعقدة و البيروقراطية القاتلة لروح المبادرة …

و للأسف علينا الإقرار بأن جزء من الفشل التنموي راجع إلى هذه البيروقراطية التي أحيانا تتصف بالبطء و عدم الكفاءة أو الجرأة في اتخاذ القرارات، أو نتيجة لفساد بعضها و رغبتها في الحصول على بعض المكاسب، و عندما نحلل نوعية القوانين المتصلة بجذب الاستثمار نجذها مقبولة بل إن الدولة بذلت جهودا محمودة في مجال البنية التحتية الأساسية ، لكن الإشكال يكمن في نوعية البيروقراطية ، و أيضا في زواج السلطة بالتجارة، فمن غير المقبول لدى أغلب رجال الأعمال أن يكون ممارس السلطة و الوظيفة العمومية تاجرا ، فبحكم وظيفته هو مطلع على المعلومة الإقتصادية ، وهذا أمر غير متاح لعموم رجال الأعمال و خاصة المبتدئين منهم، وهو أمر قاتل للمنافسة الحرة و لمبدأ تكافؤ الفرص…

فالإشكاليات و الإختلالات الكبرى في المغرب لها صلة بفشل الإدارة السياسية و ضعف أداءها إلى جانب انحراف السياسات و تحيزها للأقلية بدل الانحياز للغالبية، هذا إلى جانب ضعف الشفافية و غياب المساءلة و المحاسبة، فالبلاد تعرف فسادا إداريا و ماليا فاحشا، إلى جانب سياسات توزيعية سيئة و تجعل ثمار النمو على ضعفه حكرا على القلة، كما أن ثروات البلاد تجد طريقها لحسابات وجيوب قلة من المسؤولين بدلا أن تكون أداة للتنمية و إشباع حاجيات الأغلبية لذلك فإن الحديث عن المقاولة و الاستثمار لا يستقيم في ظل هذه الأوضاع…

كما أن الحديث عن جذب الاستثمار الأجنبي و المحلي لا يستقيم في ظل هجرة رأس المال الوطني و تهريبه إلى الخارج تحت مسميات مختلفة…فالمدخل العملي لتشجيع الإستثمار في البلاد يمر عبر إجرائين لا محيد عنهما:

أولا- استرداد الأموال المهربة إلى الخارج، فهذه الأموال المنهوبة و المهربة أضرت بالوضع الإقتصادي و الإجتماعي بشكل مباشر، على اعتبار أن رأسمال جبان، و لا يمكن له أن يدخل لبلد طارد لرؤوس الأموال،فالأموال التي تتسرب من البلاد بالعملة الصعبة،تعبر عن أحد الاحتمالات التالية :
1- الإستثمار في المغرب محفوف بالمخاطر أو2- عائد الإستثمار أقل مما هو متاح في بلدان إفريقية أو غير إفريقية تكون ملاذا لرؤوس أموال مصدرها المغرب أو 3- الوضع في المغرب على المدى المتوسط و البعيد، يتجه نحو الأسوأ..

فكيف يمكن إقناع المستثمر الأجنبي أو محلي، أن يجازف و هو يتابع عن كثب حجم الأموال المهاجرة من المغرب، ووثائق باناما و تسريبات ويكيليكس و ذهب دبي تلخص الحكاية …

ثانيا-الحد من ظاهرة زواج السلطان بالتجارة، فهما كانت كفاءة المستثمر أو المقاولة، لن تستطيع النمو و الاستمرار في بيئة تنافسية ناقصة، و يسودها الإحتكار الظاهر والخفي، فزواج السلطة بالمال، يحد من المنافسة، و يجعل المعلومة الإقتصادية محتكرة من قبل الفاعل السياسي/التاجر، و هذا الأخير يوظف هذه المعلومة لصالح مؤسساته التجارية أو المؤسسات التي يرتبط بها بشكل مباشر أو غير مباشر…

والتغلب على ظاهرتي هجرة رؤوس الأموال و زواج السلطة بالمال، يعد المدخل الأساسي للحديث عن تشجيع الإستثمار و دعم المقاولات ، تم بعد ذلك تأتي الإجراءات و التذابير المواكبة ، فاتخاذ قرار الاستثمار من عدمه،مرتبط بتواجد حزمة من التدابير التي تحدد نوعية مناخ الاستثمار ومنها:

أولا:مجموعة من العناصر الكلية التي تشمل الدولة ككل،والمتصلة أساسا بالقضايا الاقتصادية،والاستقرار السياسي والسياسات الوطنية في مجال التجارة الخارجية، والمؤشرات المتصلة بالاقتصاد الكلي: كالسياسات المالية والنقدية ،وسياسات سعر الصرف…
ثانيا: الكفاءة التنظيمية للبلد، فالشركات المعنية تهتم بقضايا الدخول والخروج، والمرونة في علاقات العمل واستخدام العمالة،والكفاءة والشفافية في التمويل، الضرائب، وكفاءة الأنظمة المتعلقة بالبيئة والصحة العامة ،وإنفاذ القانون،ونزاهة القضاء،فالكفاءة التنظيمية عنصر ضروري لمناخ استثماري ملائم.
الثالث:جودة البنية التحتية، مثل وسائل النقل والاتصالات، والكفاءة المالية،إلى جانب العمالة الماهرة،وهي محددات رئيسية للقدرة التنافسية والربحية.

وهذه العوامل مجتمعة من الصعب الوفاء بها في ظل النمط السياسي الحالي،فالمغرب بالرغم من توفره على إمكانيات ناذرة من الممكن أن تجعله وجهة استثمارية أكثر تنافسية في السوق الدولي،غير أن الإدارة السياسية والاقتصادية عاجزة عن تحقيق البنية التحتية والتنظيمية الضرورية لتحقيق الإقلاع الاقتصادي، وإخراج النمو من عتبة مادون 3.5 % إلى ما فوق 8% سنويا و لمدة طويلة و ممتدة، باعتبارها النسبة القادرة عمليا، على امتصاص حجم البطالة في المغرب…

والسبب الرئيس في تخلف المغرب اقتصاديا، رغم الإصلاحات الاقتصادية والمالية المتتالية، راجع بالأساس إلى أن السلطة السياسية لا تتمتع باستقلال أصيل، وإنما موجهة من قبل من بيدهم المقدرات الاقتصادية، فكبار التجار والصناعة والمزارعين هم من يقبضون بالخيوط الأساسية في صياغة ووضع السياسات،ويوجهون الدولة إلى إصدار قرارات تهدف في النهاية إلى تحقيق مصالحهم.

فالسلطة السياسية في المغرب وسيلة للحصول على القوة الاقتصادية، فالمناصب لا تطلب لذاتها، وإنما للاستئثار بمزايا اقتصادية، ومادام الأمر كذلك فمستقبل البلاد لن يتجه إلا نحو مزيد من الانحدار والفقر والبطالة وسوء توزيع الثروة الوطنية و الموت من أجل لقمة الخبز و حادث معمل مدينة طنجة الذي ذهب ضحيته 28 مواطن نتيجة للغرق خير مثال،وبالتالي اتساع حالة اللااستقرار وانعدام السلم الاجتماعي، فالمنهج المتبع يقود البلاد والعباد لا محالة إلى الهاوية ووقف هذا الانحدار مرتبط باستراداد الأموال المنهوبة و تطهير دواليب الدولة من الفاسدين ومصادرة أموالهم التي تمت مراكمتها بطرق غير مشروعة، فهذه الإجراءات العاجلة مقدمة ضرورية و حتمية لأي إصلاح سياسي أو إقتصادي أو اجتماعي جدي و حقيقي، رحم الله ضحايا مصنع طنجة و ألهم ذويهم الصبر و السلوان و حسبنا الله و نعم الوكيل و لا حول و لا قوة إلا بالله ..

و الله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون…

طارق ليساوي – إعلامي و أكاديمي متخصص في الإقتصاد الصيني و الشرق آسيوي، أستاذ العلوم السياسية و السياسات العامة / موقع لكم

World Opinions | Débats De Société, Questions, Opinions et Tribunes.. La Voix Des Sans-Voix | Alternative Média

تصفح ايضا

يرحم الله الرحماء.. فلنكن رحماء.. عن المغرب وليبيا نتحدث

لم يمضِ يوم واحد على الزلزال المريع الذي ضرب المغرب في العاشر من سبتمبر العام الحالي 2023 والذي وقع ضحيته الآلاف من الضحايا.. حتى فوجئ العالم بخبر سيلٍ جارف ضرب ليبيا وخلّف بدوره الآلاف من الضحايا والمنكوبين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Solve : *
22 × 26 =