آراء مغاربية – الجزائر | الانتقال الاقتصادي والانتقال الديمقراطي

جاءت فضيحة ” الديوان الجزائري للحبوب “، المتعلقة باستيراد 30 ألف طن من القمح التالف، لتؤكد، من جديد، على ضرورة تغيير ” النظام “، مطلب الجميع في البلاد. لهذا ” النظام ” وجه اقتصادي: إنه اقتصاد الدولة، الاقتصاد المسير من قبل الدولة. وفي خضم الكفاح الجاري ضد الفساد، لا يمكن الاكتفاء بالدعوة إلى النزاهة، إلى أخلقة الحياة السياسية وإلى القمع الصارم للمفسدين. كل هذا ضروري بلا شك، لكنه لا يفي بالغرض: يجب التصدي لجذور الفساد، لأسبابه العميقة، الهيكلية، أي للنظام الاقتصادي للدولة الذي ينتجه آليا، بصورة ” طبيعية ” تقريبا.

يتجلى كل ذلك بوضوح من خلال الفضيحة الجديدة لمؤسسة من قطاع الدولة، هنا ” الديوان المهني الجزائري للحبوب “. هذا الديوان هو الذي يدير أسعار القمح، يقوم بتحديدها داخل مكتب، بطريقة بيروقراطية، الأمر الذي يؤدي آليا إلى المضاربة ما دامت تلك الأسعار لا تأخذ بالاعتبار عامل السوق. إن كيس القمح، الذي يشترى حسب السعر الرسمي المدعم من الدولة، يباع بسعر أعلى بكثير في السوق حيث لا مفر من الخضوع لقانون العرض والطلب.

والخطاب السياسي حول الفساد هو، في حد ذاته، علامة من علامات الاقتصادات المسيرة إداريا، إذ لا وجود له في غيرها تقريبا؛ فبلدان اقتصاد الدولة تقضي وقتها في مكافحة المضاربة ولكن أيضا في التبذير على نطاق واسع. إن دعم أسعار المواد، الموجهة أصلا إلى الاستهلاك – القمح، الحليب، الزيت، الخ.- يقع تغيير وجهته بواسطة الاستعمال الصناعي أو الحرفي المباشر لهذه المواد. كما أنه يؤدي إلى التبذير المباشر أيضا من قبل المستهلك، بفعل نوع من انحطاط السلوك والعقلانية الاقتصاديين لديه. يقع هذا مثلا بالنسبة للخبز، البنزين، الكهرباء والماء، الخ. وهكذا تنشأ عن دعم الأسعار لفائدة جميع المستهلكين بلا تمييز في الموارد، حالات من الندرة والتوتر الاجتماعي. يحدث هذا دوريا، بغض النظر عن إرادة الحكام.

وينجر عن احتكارات الدولة للتجارة الخارجية أيضا حصول أنواع أخرى من التلاعب عايشناها طيلة عقود: تلاعب بأسعار وجودة المواد المستوردة، كالقمح واللحوم التالفة، الخ.، يقود إلى دورات أخرى من التبذير والفساد. فاقتصاد الدولة والاحتكارات ترفق حتما برقابة بيروقراطية على العملات الصعبة وبوجود سوقين إذن، سوق للدولة وأخرى موازية، يفرز تلاعبا بالفواتير وبتحويلات العملات. هذه الثنائية هي سبب المشاكل. والمواطن نفسه، الذي يشتكي من الفساد، يقصد السوق الموازية بصورة ” طبيعية ” لشراء العملات التي يحتاجها، مساهما هكذا في المضاربة على الدينار الجزائري. هل يستحق اللوم ؟ النظام هو الذي يجب تغييره والثنائية، الناتجة عنه، هي التي يجب إزالتها.

ويكون العمل نفسه منقوص القيمة في ظل اقتصاد الدولة حيث يصطدم العامل والإطار بسلوكيات بيروقراطية متكررة. فقد تبدو جهودهما وكدهما ونشاطهما مثار شكوك المسئول المهتم بالحفاظ على مكانته ضمن هرم المسؤوليات أكثر من اهتمامه بمردود المؤسسة. وإذ يبخس العمل، يشل الاقتصاد المسير إداريا روح المبادرة والمنافسة ويلد عدم الفعالية في النهاية.

الحلقة المفرغة

تؤدي مكافحة المضاربة وكذلك الوقاية من الفساد إلى مضاعفة عمليات المراقبة الإدارية والشرطية، وبالتالي إلى نمو لا محدود للجهاز البيروقراطي؛ فيتحول سلطان هذا الجهاز، المتعاظم دون توقف، بدوره إلى سبب من أسباب تفاقم ظاهرة استغلال النفوذ والفساد. إنها حلقة مفرغة. هذه الظاهرة تعد، على الصعيد الاجتماعي، واحدة من السمات الجوهرية للاقتصادات المسيرة إداريا حيث استغلال النفوذ والمحسوبية و”العلاقات” هي الوسائل الرئيسية للحصول على المنافع والخدمات وحتى التملك. من له ” معارف”، كما يقال، قد يكون له أفضلية على من له مال. ينتشر هذا الجو الاجتماعي، يتعمم ويصبح “عاديا”، حسب العبارة الساخرة للمواطن الجزائري الذي لا حيلة له لمواجهته. إنه جو يؤثر في الجميع، الصغير والكبير، وعلى كل المستويات ويضعف من مناعة المجتمع، ليس اقتصاديا فقط، وإنما معنويا أيضا. ثم يقود الكذب عن النتائج الاقتصادية، في ظل الاقتصادات المسيرة إداريا، إلى الكذب السياسي، محدثا أزمة ثقة خطيرة بين الحكام والمحكومين ولكن أيضا لدى المواطنين إزاء بلادهم، معبرا عن نوع من بخس الذات.

فعلا للفساد ثمن باهظ . و خطره سياسي بالدرجة الأولى، ولكن على الصعيد الاقتصادي المحض، يكون التبذير الناتج عن عدم فعالية تسيير الدولة للمؤسسات مكلفا أكثر بكثير. لقد قدرت ديون المؤسسات العمومية، سنة 2019، بما يعادل 25 مليار دولار وآجال التسديد بين 14 عاما وقرن، أي لن تسدد أبدا. إلا أن النهوض بالأعباء المترتبة عن هذه الديون يؤول إلى الخزينة العامة. في 2017، تم ذلك عن طريق طباعة النقود، الشيء الذي كان له انعكاسات تضخمية.

تنطبق هذه الصورة، بصفة أو أخرى ، على كافة البلدان ذات الاقتصاد المسير إداريا، سواء تعلق الأمر بالبلدان الاشتراكية الأوربية سابقا أو البلدان العربية كالعراق، سورية، ليبيا، الخ. وكما هو معلوم، فقد أظهرت هذه البلدان، خلال العقود الماضية، هشاشة كبيرة، لاسيما في مواجهة التدخلات الأجنبية.

لا يوجد توافق بين الديمقراطية واقتصاد الدولة. على الصعيد السياسي، يلد اقتصد الدولة بالضرورة نظاما سلطويا، غير ديمقراطي، فتجعل الرقابة البيروقراطية المعممة من كل مواطن مشتبها فيه. وبما أن الفساد الاقتصادي ينتج الفساد السياسي، تؤدي البيروقراطية الاقتصادية حتما إلى البيروقراطية السياسية.

إن نظام اقتصاد الدولة هو، من حيث التعريف، نظام بيروقراطي بالفعل. إنه يلد، على الصعيد الاجتماعي، بورجوازية الدولة التي تدير رأس مال الدولة – الملكية العامة – لحسابها ولحساب أبنائها. ليس من قبيل المصادفة أن تمتد المتابعات القضائية، في بعض الأحيان، إلى أسر المتهمين، الأمر الذي يكتسي حساسية خاصة لدى الرأي العام في الجزائر.

ليس من قبيل المصادفة أيضا أن يكون من الصعب الفصل، في قضايا عديدة، بين أخطاء التسيير والجنح؛ فالفساد الحقيقي قد يتحجج بحجج التسيير وقد تبدو أخطاء حقيقية في التسيير مشبوهة، الأمر الذي يكلف العدالة عناء كبيرا لفك خيوط قضايا هذا النمط من التسيير الاقتصادي والسياسي. إنه سبب إضافي لتسجيل ليس عدم فعاليته الاقتصادية فقط بل الأخلاقية كذلك، بما فيها كونه عقبة على طريق نمو دولة القانون حيث لا تداخل بين السياسي والتسيير الاقتصادي وحيث تكون السلطة التنفيذية مفصولة عن السلطة القضائية.

لا هو ملاك ولا هو شيطان

إن حصر إرادة حل المشاكل في التهذيب الأخلاقي وحده غير فعال. يقوم الديماغوجيون حاليا بتبشير الشعب الذي يحلم بها بجزائر خالية من الفساد تماما وتسودها النزاهة بلا منازع، لكنهم لا يدلونه على الطريق الموصل إليها. على فرض وجود عالم خال من العيوب، في هذه الدنيا، يستحيل التطلع إليه وتحويل الحلم إلى واقع دون أخذ الواقع بالذات بعين الاعتبار. فالإنسان بشر، لا هو ملاك ولا هو شيطان. غيروا الواقع الاقتصادي والاجتماعي وستغيرون السلوكيات الاقتصادية والاجتماعية.

لقد تأخر فوق اللازم حسم مسألة الانتقال إلى اقتصاد سوق ببعد اجتماعي. إن واحدا من أسباب التدهور الحالي يكمن في كون اقتصاد الدولة استنفد، منذ وقت طويل، قواه وبلغ حدوده، ولكننا بقينا كالجالس بين كرسيين، بين اقتصاد مسير إداريا واقتصاد السوق. لقد عانى انبثاق اقتصاد السوق، في بلادنا، من عراقيل أصحاب المصالح البيروقراطية والمواقع المكتسبة على مستوى الجهاز الاقتصادي للدولة. بل حدث ما هو أخطر من ذلك: بفعل خضوعه لسلطة البيروقراطية، تحول اقتصاد السوق في حد ذاته إلى واحد من عوامل الفساد من خلال نمو جانبه المظلم، إن شئنا، وهو سلطة المال. عندئذ، جرى بين سيطرة السلطة السياسية للبيروقراطية وسيطرة سلطة المال التقاء وتضافر أدى إلى بروز تلك المعادلة المشهورة، ” المفسد الفاسد “، الرائجة عندنا.

إن الانتقال الديمقراطي الذي نحيا حتما صورة من صوره، يرتبط بالانتقال الاقتصادي ارتباطا لا فصام فيه، بحيث لا يوجد أحدهما دون الآخر. ومع ذلك، ينصب القدر الأكبر من الاهتمام، لسبب وجيه، على الانتقال الديمقراطي، سواء على مستوى السلطة أو المعارضة، مقارنة بالانتقال الاقتصادي الذي لا يزال يحظى إلا بالقليل من الاهتمام. نحن بحاجة إلى رؤية اقتصادية، إلى إستراتيجية اقتصادية، لا إلى إجراءات متناثرة وجزئية. تحتاج البلاد إلى مشروع، إلى خطة دقيقة، مفصلة وملموسة للانتقال إلى اقتصاد السوق ببعد اجتماعي، كون هذا المحتوى الاجتماعي يعد واحدا من أعظم مثل نوفمبر 54.

ينبغي تحديد مراحل الانتقال الاقتصادي لكي يتم بأقل كلفة اقتصادية واجتماعية ممكنة، لأن هذا هو المشكل الرئيسي الذي يجب التصدي له أثناء التغييرات الهيكلية الكبرى. ينبغي إذن الاهتمام اهتماما خاصا بتنظيم البعد الاجتماعي لهذا الانتقال. هذا يتطلب الانتقال بسرعة من النظام الحالي لدعم المواد الضرورية، غير الفعال والمكلف، إلى نظام حقيقي للتحويلات الاجتماعية الموجهة حصرا للفئات الاجتماعية التي تحتاج إلى إعانة الدولة. هناك صيغ عديدة (منها المنح المخصصة للاستهلاك، السكن، الخ.)، أكثر فاعلية اجتماعيا وأسلم اقتصاديا من التحويلات المعممة الحالية التي لا تفرق بين مستويات موارد الدخل. عندئذ فقط، سوف تؤدي الدولة دورها الصحيح كموزع للدخل الوطني.

ينبغي كذلك خلق جو مناسب لهذا الانتقال الاقتصادي. بهذا الصدد، يتعين على الخصوص التخلي عن لغة الخشب، الموروثة عن عقود اقتصاد الدولة والتي تنم عن استمرار الارتياب من الاستثمار الخاص، سواء كان جزائريا أم أجنبيا، ارتياب يتعايش، في أحيان كثيرة وبصورة متناقضة، مع الدعوات إلى الاستثمار. يجري التعبير عن هذا الموقف باستعمال قاموس بيروقراطي يشكك باستمرار في العمليات الاقتصادية والمالية وفوترتها أو يشهر مرجعية “المال الوسخ” في وجه المقاولين دون تحديد ما هو المقصود بالضبط بهذا العبارة، الخ. نعم، يجب مكافحة الغش الاقتصادي بصرامة، لكن عوضا عن اللجوء إلى الاعتبارات الأخلاقوية عن ” المقاول النزيه ” و”المقاول غير النزيه “، ألا يكون من الأفضل العمل على إزالة كل الفرص الممنوحة لعمليات الغش، مثل الوجود شبه الرسمي لسوقين للصرف؟

ينبغي كذلك حسم القضايا الخاصة بالمنافع الممنوحة للمستثمرين، في مجال الاستثمارات الأجنبية المباشرة – حيث المنافسة شديدة بين البلدان -، حسما واضحا لا يأخذ بالاعتبار سوى الفعالية الاقتصادية. ومن الضروري أيضا حل مشكلة تحويل رؤوس الأموال، لاسيما بالنسبة للشركات الأجنبية، بما في ذلك نقلها إلى الخارج، لأن من السذاجة والافتقار إلى المنطق الاعتقاد بإمكان الحصول على ثقة المستثمرين إذا كانوا لا يتمتعون بحرية التصرف في الأرباح التي يحققونها.

مما سبق نخلص إلى القول بأن خلق مناصب الشغل هو، في نهاية المطاف، أهم مؤشر على نجاح سياسة التنمية الاقتصادية، كما هو، في نفس الوقت، الدعامة الرئيسية للسيادة وللتوازن الاجتماعي في كل بلد مهما كان.

توجد الآن خبرة ثرية حول الانتقال الاقتصادي من اقتصاد الدولة المسير إداريا إلى اقتصاد السوق لدى البلدان التي عاشت تحت تنظيم اقتصادي مماثل لتنظيمنا، مثل الصين، فيتنام، كوبا، بلدان أوربا الشرقية. لماذا لا تتولى الجزائر تنظيم ندوة دولية للخبراء والجامعيين حول هذا الموضوع ؟

الثورة الوطنية والثورة الديمقراطية

قلت آنفا إن اقتصاد الدولة ” بلغ حدوده منذ وقت طويل “. يبدو لي الآن أن هذا القول يحتاج، ربما، إلى بعض التوضيحات. أعتقد جازما أن تفسير الأمور خارج سياقها التاريخي هو من قبيل العبث، كأن ننظر هنا إلى الوجه الذي أصبح عليه اقتصاد الدولة الآن فقط وبعد أن نال منه التدهور ما نال. يجب ألا ننسى أمرا مهما للغاية: إن اقتصاد الدولة فرض نفسه غداة الثورات الوطنية، بصورة طبيعة وبتأييد الأغلبية العظمى من المجتمع، في خضم وثبة معادية للاستعمار كانت، في نفس الوقت، معادية للرأسمالية التي كان ينظر إليها كمعادل للغرب الامبريالي. وكانت تلك الحركة دولية إذن.

لقد سمح اقتصاد الدولة، طيلة حقبة تاريخية معينة، بتوفير حاجيات ملحة وكثيرة للمجتمع: التربية، الصحة، التعليم الجامعي، الماء، الغاز والكهرباء، الهياكل القاعدية، تكوين الإطارات، تحسين مستوى المعيشة، الخ. لولا ذلك لما استطعنا، اليوم، طرح المشاكل الجديدة، المتطلبات الجديدة، سواء في ميدان الديمقراطية أو في ميدان الاحتياجات الاقتصادية.

كانت الثورات الوطنية في القرن الماضي، لاسيما في البلدان العربية، ثورات قومية لكنها غير ديمقراطية. المجتمع نفسه لم يكن يطرح مسألة الديمقراطية مثل الآن. في سياق الإيديولوجيا ذات النزعة الاشتراكية، السائدة آنذاك، كانت الديمقراطية الاقتصادية والاجتماعية تبدو أهم من الديمقراطية السياسية. وكان العصر عصر الزعماء القوميين لكنهم سلطويين، مثل الرؤساء عبد الناصر، بومدين، القذافي، الخ.؛ فتقهقرت تلك الثورات الوطنية ودخلت كلها، في نفس الوقت تقريبا، في أزمة بسبب افتقارها للديمقراطية.

نعلم اليوم أن الديمقراطية السياسية والديمقراطية الاقتصادية والاجتماعية غير قابلتين للفصل، وبدقة أكبر، نعلم أن الديمقراطية ككل ظهرت كضرورة لتجاوز حدود الثورات الوطنية للقرن الفائت وإخفاقاتها، بمعنى أنها ظهرت لتحقيق أهداف هذه الثورات. وما الحراك في الجزائر سوى الدليل الحي على بروز هذا الوعي.

د. جمال لعبيدي – كاتب جزائري

ترجمه من الفرنسية د. أحمد رضوان شرف الدين

World Opinions | Débats De Société, Questions, Opinions et Tribunes.. La Voix Des Sans-Voix | Alternative Média

تصفح ايضا

الدين والدولة في المغارب

يخيّل إليّ أن النقاش الفكري والسياسي، الذي خيض في الدول المغاربية منذ فترات الاستقلالات الوطنية الأولى، عن علاقة الدولة الوطنية بالدين الإسلامي، لم ينبن على أي أساس ديمقراطي، بل هو بالأساس تحكّمي تمنطق بالشرعية التي فازت بها القوى السياسية والمسلحة التي كافحت من أجل الاستقلال ومن إملائها، في بعض الحالات، بالقوة التحكّمية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Solve : *
1 × 8 =